بثينة خليل – الناس نيوز ::
من النادر أن تعكس مؤسسة واحدة حال شعب عاش تطورات وتقلبات كثيرة وجذرية، مثلما تعكس جامعة دمشق حال السوريين، وحال الدول والأنظمة التي حكمتهم، من الحكم العثماني إلى الملكي العربي، ثم الاحتلال الفرنسي، فالاستقلال، إلِى تناوب الحكم الديمقراطي والانقلابات العسكرية، ثم حكم البعث، وأخيراً الحكم المافيوي الطائفي الأسدي.
الجامعة متردية المستوى، التي تسيطر عليها أجهزة الأمن، الصامتة، المكممة الفم، الطاردة للعلماء والموهوبين، الفقيرة بالنشاطات الإبداعية، الكئيبة، المليئة بصور الحاكم، وأبو الحاكم، وأخو الحاكم، وشعارات الحاكم، وأعلام الحزب الحاكم، التي توفد طلاباً للدراسة في الغرب، فلا يعود منهم إلا القليل، التي لا يأتيها للدراسة فيها إلا العاجز عن الدراسة في غيرها، التي راتب المدرس فيها من بين الأضعف في العالم، الفقيرة بأدوات البحث، التي لا يكاد يذكر اسمها في سجلات براءات الاختراع، ولا الابتكارات، ولا في الدراسات المفيدة للإنسانية، الجامعة التي تعلن نجاح أموات، هم من حصدتهم آلة القتل المنفلتة في الفترة بين تقديم الامتحانات وصدور النتائج.. هذه الجامعة بهذه الصفات، هي جامعة دمشق الحكم الأسدي، وليست جامعة دمشق منذ تأسيسها قبل 120 عاما.
نواة جامعة دمشق كانت اثناء الاحتلال العثماني ومثلت سعي الدولة العثمانية للتطور واللحاق بالحداثة بكل جوانبها.
وهو سعي كان متأخراً، وغير كاف لإحداث الثورة العلمية والصناعية والمعرفية اللازمة، لكنه مع ذلك وضع أساساً للحد الأدنى من دخول العصر.
ففي عام 1902 أصدر السلطان العثماني عبد الحميد، أمراً إلى والي دمشق “ناظم باشا” بإنشاء مكتب (معهد) لتدريس الطب والصيدلة بمناسبة عيد توليه العرش. وأرسلت الحكومة العثمانية فريقا طبياً ممتازاً لدمشق، منهم رئيس البعثة فيض الله باشا الذي أحب دمشق ووهب نفسه لتأسيس معهدها الطبي، ومنهم الطبيب العثماني محمود بك الذي عمل مديراً لمعهد الطب العثماني.
تعددت الأسباب لتأسيس صرح علمي حديث في دمشق أيام السلطان عبد الحميد، منها شح عدد الكليات الموجودة في الأراضي العثمانية، حيث لم يوجد وقتها سوى ثلاث كليات، ومنها تزايد نسبة الوفيات عند الولادة في دمشق، حيث تقوم القابلات بالتوليد.
فتح معهد الطب الجديد في دمشق في الأول من سبتمبر/أيلول عام 1903 بحضور 40 طالب دمشقي مرتدين بدلات رسمية سوداء، وواضعين الطرابيش الحمراء ليكونوا ما يمكن وصفه بأول دفعه من طلاب جامعة دمشق.
وبعد الانقلاب على السلطان عبد الحميد عام 1909 تحول المكتب الطبي لثكنة عسكرية للجيش التركي، ونقل المقر فيما بعد إلى حي الصالحية السكني في أحد القصور التابعة لعائلة العظم، وبقي هذا المقر بشكل مؤقت مقراً للجامعة حتى انتهاء العمل بمبنى حي البرامكة الرئيسي عام 1913.
وضع الطبيب رضا سعيد النظام الأساسي للجامعة، وبدأ منذ صيف 1919 بوضع اسم “الجامعة العلمية السورية” على شهادات الحقوق والطب.
رضا سعيد كان له الفضل بتأسيس المعهد الطبي العربي، وتدريس الطب باللغة العربية، وكانت المؤسسة الوحيدة بالعالم التي تدرس الطب باللغة العربية.
وانتهى الحكم العثماني بالثورة العربية الكبرى، وولدت دولة سوريا عام 1920 باسم “المملكة السورية العربية”، بزعامة الملك فيصل، حفيد الشريف حسين، شريف مكة المكرمة، لكن هذه الدولة لم تعش إلا أشهراً، فخضعت سوريا للانتداب بنفس العام.
وصارت سوريا جمهورية معترفاً بها، لها رئيس وحكومة وبرلمان منتخب، لكنها تحت الاحتلال الفرنسي المباشر.
وفي حزيران 1923 بات اسمها “الجامعة السورية” وصارت جامعة معترف بها دولياً، وهذا التاريخ هو المعتمد كتاريخ رسمي لولادة جامعة دمشق، وبه تصنف ثالث أقدم جامعة عربية حديثة، بعد جامعة القاهرة وجامعة الجزائر.
خلال فترة الاحتلال الفرنسي باتت الجامعة ساحة أساسية من ساحات النضال الوطني ضد فرنسا، وتشكل الهوية السورية.
وكان الطلاب والأساتذة ينشطون في العمل السياسي والوطني، فشاركوا بالإضراب الستيني عام 1936، وبإضراب الطلبة احتجاجاً على تخفيض فرنسا من ميزانية الجامعة، كما كان للطلاب دور بترجيح نتائج الانتخابات النيابية بين المتنافسين.
وتوج كل ذلك برفع أول علم سوري بعد خروج الفرنسيين على المبنى الذي صار لاحقاً كلية الحقوق.
وبعد جلاء الفرنسي عام 1946، عاشت جامعة دمشق (وكان اسمها ما زال الجامعة السورية) فترة نشاط حزبي محموم، وخاصة في فترات الحكم الديمقراطي، بالمقابل كانت الانقلابات العسكرية تحد من هذا النشاط، وتضع البندقية فوق رأس الطلاب والأساتذة.
و كانت الجامعة حينها من أفضل الجامعات العربية، بسجل حافل ضم أسماء أكبر علماء الشرق وساسته وأدبائه، فقد درس فيها عباقرة في الأدب، مثل الشاعر نزار قباني، والروائي عبد السلام العجيلي، ونخبة من السياسيين السوريين والعرب، مثل الرؤساء صبري العسلي ومأمون الكزبري وخالد العظم، والمفكر المغربي محمد عابد الجابري، وزعيم حزب النهضة التونسية راشد الغنوشي، إضافة لعلماء وأطباء ومهندسين ذاع صيتهم في كافة أنحاء العالم، وتمتعت الجامعة بقيادة علمية ووطنية ندر مثيلها في العالم العربي للأستاذ الدكتور قسطنطين زريق.
في عام 1958 صارت سوريا جزءاً من دولة الوحدة مع مصر (الجمهورية العربية المتحدة)، وصدر قانون تنظيم الجامعات، ولأول مرة صار اسمها جامعة دمشق بدل الجامعة السورية، وصار رئيسها الدكتور أحمد السمان.
وعاشت الجامعة كل الجدل والصخب الذي عاشه المجتمع السوري في فترة الوحدة، بين مؤيدة للوحدة بكل عواطفه، وبين مؤيد شرط عدم التخلي عن الحريات والحقوق التي كسبها السوريون من فترات الحكم الديمقراطي.
وعادت سوريا للوجود المستقل بالانفصال عام 1961، وسماها الانفصاليون “الجمهورية العربية السورية” وعاشت الجامعة سنتين من الحرية والحكم الديمقراطي، الذين ستحرم منهما بعدها حتى اليوم.
ففي عام 1963 حصل انقلاب حزب البعث (الذي يسميه النظام: ثورة 8 آذار) ودخل المجتمع السوري فترة التراجع عن الحقوق والحريات.
وفي عام 1970 اكتمل التراجع بوصول حافظ الأسد للسلطة بانقلاب داخل حزب البعث (يسميه النظام: الحركة التصحيحية 16 نوفمبر/تشرين الثاني) وباتت جامعة دمشق مرتعاً لكل أشكال فساد السلطة، وتغولها، واستبدادها، وفقدت الجامعة كل أدوار الجامعة، وباتت الدراسة فيها لمجرد الحصول على شهادة تسمح لحاملها بالتوظف وكسب الرزق.
وفي الثمانينات، سقطت جامعة دمشق (وكل جامعات سوريا) سقطة لم يكن أحد يتخيل حصولها في أشد الكوابيس تشاؤماً وفظاعة، حين منح حافظ الأسد للطلاب البعثيين الذين قاموا بدورات عسكرية (دورة المظليين) حق الانتساب للجامعة في الكليات التي يرغبون، مهما تكن درجاتهم في الثانوية العامة متدنية.