د . محمد حبش – الناس نيوز ::
تهتف السويداء اليوم بحناجر السوريين جميعاً بعد سنوات طويلة من القهر والعذاب والظلم عانى فيها السوريون أشد وأقسى أنواع المآسي والكوارث والخذلان، وباتت سوريا على خط أفقر بلدان العالم في الرواتب والموارد وبات رئيس نظام ( السفاح بشار الأسد ) يصرح على وسائل الإعلام لشعبنا : لقد وصلنا إلى فشل أخلاقي وفشل سياسي وفشل اجتماعي وفشل اقتصادي! ثم يقول لشعبنا الجبار في لهجة انفعالية واضحة: كيف ستعودون؟ لا يوجد ماء ولا كهرباء ولا بنزين ولا بيوت ولا بنية تحتية!
ولكن السويداء تتصدر هذه المرة المشهد الغاضب، وتعد بسلطان باشا أطرش جديد يعيد للسوريين الكرامة والحرية والهوية الوطنية.
فما هي السويداء؟ وما هو علمها المزين بالألوان الصفراء والحمراء في قلب المشهد العاصف.
في اللغة ، السويداء هي حبة القلب، وفي التاريخ فالسويداء هي الموحدون من أهل الكرامة، وفي الجغرافيا فالسويداء هي جبين سوريا.
وأهل السويداء لا يحبون لقب الدروز لأنه يربطهم بنشتكين الدرزي الذي يعتبرونه مارقاً ضالاً في تاريخ الطائفة، ويفضلون بدلاً من ذلك اسمهم التاريخي بني معروف، واسمهم الديني المحبب: الموحدون، فمن هم الدروز الموحدون؟
ظهر الدروز كطائفة دينية على مسرح الأحداث حوالي عام 1000 ميلادية، في القاهرة، حين كان الخليفة العزيز قد حقق للدولة الفاطمية أفضل عصور التسامح والانفتاح والنجاح الحضاري في تاريخ الإسلام، وباتت القاهرة تزهو بالأزهر الشريف وألف مئذنة أخرى، وباتت عاصمة لدولة تمتد من المغرب إلى مصر إلى الشام وتشمل الحرمين الشريفين، وباتت صورة العزيز في مصر كصورة هارون الرشيد إبان مجد الدولة العباسية يوم كان ملوك الأرض يخشون بأسه وحضوره، ويجب هنا إنصاف الدولة الفاطمية التي تم تشويهها بشكل مخز على يد خصومها اللاحقين.
ومع موت العزيز ولي ابنه الحاكم الفاطمي، وهو شخص جدلي مدهش عجيب الأطوار وقد غالى فيه قوم فألهوه وغالى فيه قوم فكفروه، وفي أيامه نشأت الحركة الدرزية عبر تيار قوي من شباب الدولة الفاطمية اختاروا ثقافة تجديدة تأويلية في الإسلام، وظهر فيهم نشتكين الدرزي الذي غالى في الحاكم حتى ناداه بالألوهية مع الله، الأمر الذي أغضب شباب النهضة الدرزية فانصرفوا عنه إلى الإمام حمزة بن علي الزوزني الذي كان أكثر اعتدالاً ووضوحاً، ونجح في تأسيس مذهب عرفاني إشراقي يقوم على مقاصد القرآن ويلتزم تأويلاً إشراقياً ينزه فيه الله تعالى عن كل نقص وظلم، ويدعو إلى تطوير الشرائع بما يناسب مصالح الناس، وإتاحة دور أكبر للعقل في الشريعة، وضم الفلسفة الفيثاغورية لعقيدة التوحيد، وذلك انطلاقاً من قواعد الفقه الإسلامي في الاستحسان والاستصلاح والعرف.
لم تكن هذه الأفكار لترضي المصريين، وبدت خروجاً على ظاهر النص، وبالفعل فمع غياب الحاكم سار ابنه الظاهر في هوى العامة وشن حملة اضطهاد شديدة على الدروز وشردهم في الأرض وطاردهم إلى جبال الشوف وكسروان، حيث استوطنوا تلك الحبال العالية وباتوا أكثر قدرة على الاجتهاد الحر، وأبعد عن تأثير التيارات السلفية، وشيئاً فشيئاً نشأت في الطائفة مفاهيم وقيم وشعائر لا تتفق مع مذاهب السنة ولا الشيعة، واختار فقهاؤهم وأمراؤهم التسمية بالموحدين الدروز أصحاب العقيدة القائمة على توحيد الله.
لقد باتوا بالفعل مختلفين عن محيطهم السني والشيعي كذلك، وباتوا يقدمون قراءة مستقلة للإسلام، وكان ذلك سيبدو طبيعياً لو أن المسلمين تقبلوا الاختلاف بروح طيبة، وفق منهج القرآن الكريم: ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة، وكان هذا التنوع سيغني صفحة الحضارة الإسلامية لو بقيت روح القرآن الجميلة تحكم المجتمع الإسلامي، ومن آياته خلق السماوات والأرض واحتلاف ألسنتكم وألوانكم، وفي السياق نفسه اختلاف لغاتكم وشعوبكم وقبائلكم وأديانكم وشرائعكم.
ولكن الأمة الإسلامية ابتليت بتيارات لاهوتية ليتورجية بالغة التزمت، وفي غمار الصراع المملوكي المغولي ظهر ابن تيمية الذي أفتى بعبارات بالغة القسوة بكفر طوائف بحالها، ومنها بشكل خاص الطائفة الدرزية، ولم يكتف بالفتوى بل نجح في إقناع الناصر بن قلاوون أن يدعمه لحملات عسكرية قادها بنفسه على طريقة فاغنر ويفغيني ديموجين لقتال الدروز في جبال كسروان، الأمر الذي زاد من حدة الكراهية والقطيعة.
وقد رسمت هذه الفتاوى والممارسات التي اتصلت بها ملامح جد قاسية في علاقات الدروز بالمحيط الإسلامي من حولهم، وقد تعرض الدروز لأكثر من مذبحة أليمة على يد دواعش القرن الثامن عشر والتاسع عشر الأمر الذي أدى إلى قطيعة أخرى على مستوى مناسك الحج الأعظم.
وفي مرحلة لاحقة رفض الأزهر الشريف فتاوى ابن تيمية وأعاد الشيخ محمود شلتوت الاعتبار للدروز بوصفهم مذهباً إسلامياً كريماً ولو كانوا مختلفين عن السنة وعن الشيعة، وقد قام عبد الناصر بتقديم مئات المنح التعليمية لأبناء الجبل في سوريا ولبنان في خطوةة لتعزيز انتماء الدروز للحضارة الإسلامية.
الدروز الموحدون طائفة توحيدية كريمة، ومشايخهم أهل إشراق وأشواق يستغرقون في ذكر الله وعرفانه، ويلتزمون خطاً متشدداً في العبادة والصوم والذكر. ، ويبالغون في إنكار المنكر من خمر وفحشاء وينالون احتراماً غير عادي من جمهور الشعب.
نعم إنهم مختلفون ولكن هذا الاختلاف هو اختلاف تكامل وليس اختلاف تضاد، وعلينا أن ندرك عظيم الحكمة الإشراقية التي أضافوا إلى وعيهم الديني بعيداً عن سياق المهاترات التكفيرية التي يروجها بين الحين والآخر أغبياء لا يعرفون من الإيمان إلا إلقاء الآخرين في الجحيم.
قدم الدروز الموحدون أعلاماً كباراً في التاريخ الإسلامي وظهر فيهم وعي متميز أيام الدولة المعينية والشهابية ومن أعلامهم البارزين في العصر الحاضر شكيب أرسلان وعز الدين التنوخي وعلم الدين التنوخي وأخيراً سلطان باشا الأطرش قائد الثورة السورية المجيدة، وهي التي ننتظر أن يتكرر اليوم ليحمل للسوريين خبز الكرامة والعدالة وطرد المحتلين الجدد بلبوس مختلفة .
هل يدرك السوريون أن اختلاف الرؤية للحقيقة الواحدة أمر طبيعي، وأن أولئك المتربصين بالخلاف الفقهي ليجعلوه خلافاً وطنياً هم حمقى آثمون، يعيدون إنتاج الكراهية ولا يؤتمنون على وطن!
لا تغير نفسك لتشبه الآخرين، ولا تطلب من الآخرين أن يغيروا أنفسهم ليشبهوك، لقد خلقنا لنتكامل لا لنتماثل.