امعانا في تعذيبه، فقد وُضعت العلبة الخشبية للجبنة الهولندية على الطبق قبل ان يبدأ اي نشاط آخر في تحضير طعام الفطور، وهذا يعني أن عليه ان ينتظر ريثما تصنع امه الشاي وتقلي البيض وتملأ الصحون بالمكدوس واللبنة والزيتون والجبن من كافة القطرميزات التي تزخر بها ارجاء المطبخ المختلفة. لو انها قامت بتقطيعها ووضعها في صحن لربما تمكن من اختلاس قطعة منها وجعل حليماته الذوقية المتحفزة تتمتع بنكهتها الخرافية، ولكن امه خصيصا على الأغلب، تركت الجبنة في غلافها البلاستيكي الذي لا يمكن فضه بسبب متانته الا بسكين، وفي العلبة الخشبية التي رسم عليها طائر ما ربما كان البطريق، وإذا اراد فتحها وفض الغلاف البلاستيكي فهذا يعني ان عليه اخراجها من علبتها الخشبية المطاوَلة، وهذا يعني كذلك ان الجميع وخاصة امه سينتبهون له، وحتى لو لم ينتبه احد الى ذلك فان الجميع سيعرفون بواقعة الاعتداء عندما يكتشفون ان الغلاف البلاستيكي مفتوح وان قطعة الجبن الكبيرة تلك بأقل من حجمها الطبيعي الذي يعرفه الجميع، وإذا انتبهوا إليه فإن صراخهم في احسن الأحوال سيتعالى من كل حدب وصوب داعيا اياه إلى رفع يده عن الجبن هذا أذا لم يتلقفه احد بصفعة أو يرميه بفردة شحاطة، على كل الأحوال هو لم يكن يفكر بذلك لمعرفته باستحالة الأمر، كان يكتفي بالمرابطة عند حافة طبق الألمنيوم جاعلا عينيه تستمتعان بجمال علبة الجبنة الهولندية ومنتظرا ان تبدأ الوليمة لكي ينقض بدون رحمة على قطعها الشهية.
حضرت امه ومعها سكين فانبعث الأمل في نفسه، واعتقد لوهلة ان اللقاء مع الجبنة الهولندية اوشك على الحدوث، وسال لعابه قليلا ولكنه ازدرده بهدوء، غير ان حبات البندورة التي احضرتها اخته جعلته يدرك ان عليه الانتظار اكثر، وبسبب ذلك فقد شعر ببعض الكراهية للبندورة ثم للخيار الذي حضر لاحقا ليشارك البندورة الصحن، وبعد ان انتهت امه من فرم البندورة والخيار كانت عيناه مثبتتين على السكين الذي ظلت تحمله بيدها وتنظر حولها كما لو انها تبحث عن شيء، لا بد انها تبحث عن صحن تقطع فيه الجنبة الهولندية، هكذا فكر هو بداخله، أما امه فلم تكن تعرف شخصيا عما كانت تبحث، نهضت وتوجهت الى المطبخ تاركة اياه يتابع صراع الانتظار المرير.
بدأت الصحون تحضر بالتتالي فهذه اخته الثانية تحضر صحن المكدوس وتلحس اصابعها من الزيت، ثم يحضر اخوه الأكبر حاملا صحن الزيتون، وهكذا كانت الصحون تتكاثر على الطبق حتى ملأته تقريبا ولم يكن ينتبه من الذي أحضر هذه الصحون، فقد كانت كل مشاعره وحواسه مركزة على علبة الجبنة الهولندية، واخيرا حضرت مقلات البيض التي لا تزال تصدر عنها اصوات القلي، لم يبق سوى ابريق الشاي الذي كان على وشك ان يجهز فوق نار بابور الكاز، ستحضره امه وريثما يقوم احد بسكب الشاي في الكؤوس تقوم هي بتقطيع الجبنة ويبدا الاحتفال، هكذا فكر هو ولكن امه التي تركت احدى اخواته جالسة القرفصاء قرب بابور الكاز منتظرة ان يغلي، خالفت توقعاته واحضرت صحنا وسكينا كان من الواضح هذه المرة ان ذلك من اجل تقطيع الجبنة الهولندية، خاصة وان امه اخرجت القطعة من العلبة الخشبية وهمت بفض الغلاف البلاستيكي، ولكن قرعا عنيفا على البوابة الحديدية للدار وجلبة وصراخا اندلعا في الخارج جعل الجميع يقفزون ويصابون بالرعب وامه تخرج لتفتح البوابة لتجد جارهم يحذرها وفي يديه حقيبة:
- سقطت القنيطرة يا ام وليد.. اتركوا كل شي والحقوا حالكن.
كل ما يذكره ان امه اخذت تدفعهم الى الخارج بشكل هستيري للانضمام الى قافلة الناس التي بدأت رحلة نزوحها للتو موصية الكبار منهم ان يمسكوا بايدي الصغار، وبينما كان اخوه الأكبر يشده من يده التفت الى الخلف لعله يرى علبة الجبنة الهولندية، ولكنه لم يشاهد سوى ابريق الشاي الذيي كانت الرغوة تتدفق من تحت غطائه المتراقص بفعل الغليان دون ان يعيره أحد اي اهتمام.
رغم جميع مصاعب طريق النزوح المرير لم تفارق علبة الجبنة مخيلته، وكم ندم لأنه لم يفطن لكي يأخذها بيده قبل ان يخرج، وتمنى لو يتمكن من العودة لأخذها، وهي لم تفارق مخيلته يوما بعد ذلك. ظل دائما يبحث عن جبنة طعمها يشبه طعم الجبنة الهولندية ولكنه لم يعثر على ذلك ابدا، لدرجة انه في احدى المرات بينما كان يقف على الرصيف في بلد النزوح التي ليس فقط لم يشاهد فيها جبنة هولندية، وانما لم يلتق احدا قد شاهدها او سمع بها، كانت تمر دراجة هوائية يركبها اثنان، وكان يدور بينهما حوار لم يسمع هو منه الا آخره، حيث كان الراكب الذي على المقعد الخلفي يقول:
- يا اخي من لما جاء النازحون الواحد ما عاد استرجى يشلح شحاطته برا.
فوجد نفسه يصيح به مقهورا، ولا يدري ان كان ذاك قد سمعه ام لا:
- نحن نأكل الجبنة الهولندية التي لم تسمع بها، نحن لا نسرق الشحاطات.
لم يتمكن بعد ذلك من تذوق ذلك الطعم الأسطوري كما يحلو له وصفه الآن، وعندما سال أمه عن مصدر تلك الجبنة اعربت له عن جهلها بذلك، أما ابوه الذي كان يحضر لهم تلك الجبنة الهولندية فلم يعد من الحرب، قيل انه اسر وقيل انه قتل، بكافة الأحوال لم يعد له وجود فوق الأرض على الأغلب، ولكن اكثر حقده بسبب حرمانه من تلك الجبنة في ذلك اليوم المشؤوم انصب على الناطق العسكري الذي صرح عبر اثير اذاعة دمشق بان القنيطرة سقطت، حيث سمع الناس بعد ذلك يتهامسون بان المدينة لم تسقط الا بعد يومين من تصريح الناطق العسكري، وعبثا حاول ايجاد مبرر لعجلة الناطق العسكري في امره، فحسب العادة يقوم الناطق العسكري عند حديثه عن الانتصارات بالمبالغة فيها او عن الخسائر بالتقليل منها، اما ان يعلن عن سقوط مدينة قبل يومين من سقوطها، فهذا ما لم يفهمه:
- الوغد، لو انه اجل الاعلان عن سقوط المدينة ساعتين فقط، لما بقيت نغصة الجبنة الهولندية في القلب الى الأبد.
كان يقول ذلك في كل مرة يعجز فيها عن ايجاد المبرر لذلك التصريح الأخرق ثم يردف:
- تبا له، هو ناطق باسم من؟