تلقى نظام الأسد في سورية ضربة موجعة ، نوعا ما ، قبل ما تسمى انتخاباته الرئاسية في 26 مايو/أيار إثر خسارته حي طي في مدينة القامشلي التابعة لمحافظة الحسكة شمال شرق سورية على الحدود مع تركيا لصالح قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، خلال الأحداث الأخيرة والمواجهة التي حصلت بينهما داخل الحي، مستخدمين رشاشات وأسلحة متوسطة. قبل أن يتدخل الجيش الروسي لإعادة ضبط المنطقة هناك وفق وساطة تسيطر بموجبها قوات “قسد” جغرافياً على حي طي ( وهو حي ذو غالبية من القبائل العربية السنية ) ومساكن حي حليكو، مقابل توريد النفط إلى مناطق سيطرة النظام في الجنوب الغربي من سوريا.
ومن جانبه، حاول النظام توجيه الأنظار إلى أن الخلاف في القامشلي يحمل طابعاً قومياً، كردياً-عربياً، إلا أن الحقيقة التي لا يمكن إغفالها، تكمن في السيطرة والنفوذ وضم مناطق جديدة تعزز أوراق كل طرف قبل الوصول إلى الترتيبات الأخيرة، بعد أن فرض الواقع العسكري والداعمون الإقليميون والدوليون لكل طرف “فيدراليات عسكرية” بإدارات مدنية تحت مسميات مختلفة. كالحكومة السورية والحكومة المؤقتة وحكومة الإنقاذ والإدارة الذاتية. ولكلّ منها شكل إداري خاص ونموذج حكم وقادة سياسيون وعسكريون مختلفون إيديولوجيا. كما لكل منهم ممثلون لدى الدول التي تتبنى حلفاء محليين لها على خريطة الصراع السوري.
ما حصل في القامشلي، وتحديداً في حي طي، يشير إلى أن لا توافقات قريبة بين الأطراف المتنازعة في سوريا، على عكس ما كان يُروّج من أن الأسد و”قسد” على خطٍ واحد ورؤية متقاربة للحل السياسي السوري، بل إن أحداث القامشلي كشفت أن وصول الخلافات إلى نقطة الاشتباك يدل على تراكمات سابقة لا تحتمل سوى رصاصة في أرض الطرف الآخر ليعود التشظي لعلاقتهما.
توتر العلاقات الروسية الأمريكية
ولتوضيح الصورة بأبعادها تجب الإشارة إلى أن أي توتر بين الولايات المتحدة الأمريكية الداعمة لقوات “قسد”، وروسيا حليفة نظام الأسد؛ سينعكس حتماً على المنطقة الشرقية في سوريا، لا سيما بعد وصول الرئيس جو بايدن إلى البيت الأبيض في واشنطن. وتصريحاته المتصاعدة تجاه روسيا وسياساتها العدوانية في أوكرانيا وسوريا وبدرجة أقل في ليبيا.
وفي ضوء ذلك يمكننا القول إن ما جرى في حي طي كان اختباراً عملياً لعلاقات الجانبين في سوريا. وقد يكون بداية لطرد النظام تدريجياً من شرق الفرات، بعد تحويل الواقع الذي جزأ سوريا إلى مناطق نفوذ عسكرية ( احتلالات اجنبية ) ، وفرض نمط إداري مستدام، وبذلك لا نبتعد عن طرح الرئيس الأمريكي جو بايدن عندما كان عضواً في الكونغرس عام 2005، حين رفع في إحدى الجلسات ثلاث ورقات ملونة، تشير إلى فدرلة العراق آنذاك على أساسٍ قومي مذهبي؛ سنة وشيعة وأكراد. وكما هو واضح، فإن سوريا ليست بعيدة عن عراق ما بعد الغزو الأمريكي، وظهور فواعل سياسية وعسكرية إلى جانب الدولة، ما أتاح لإيران التغلغل في المجتمع الشيعي العراقي لترسيخ الطائفية وتصدير الثورة الإسلامية الخمينية.
وفي السياق نفسه، أعلن قائد القيادة المركزية الأمريكية، الجنرال كينيث ماكنزي، أن بلاده “ستبذل جهدها لوقف الاشتباكات الدائرة في مدينة القامشلي، عن طريق الحوار”، مؤكداً أن قوات “قسد” “شريك مهم لنا وهي تقوم بحماية جنودنا”.
الدفاع الوطني–قسد في نظر النظام عرب–كرد
من المعروف أن ميليشيا الدفاع الوطني تتبع للفرقة الرابعة بقيادة ماهر الأسد ، وبقيادة من عضو مجلس الشعب السوري شيخ طي محمد الفارس، وتعد طرفاً في النزاع الأخير في القامشلي، وبالتالي لن تقف إيران متفرجة على دحر حلفائها من المدينة وإضافة خسارة إلى سجلها في سوريا بعد مقتل نائب قائد فيلق القدس الإيراني اللواء محمد علي حق بين، باستهدافه الأسبوع الفائت من طائرة مجهولة بمحيط مدينة تدمر في البادية السورية.
وتشير مصادر إلى أن عدد ميليشيا الدفاع الوطني في القامشلي وصل في العام الأخير إلى ثلاثة آلاف عنصر مسلّح، معظمهم من العشائر السورية، ومهمتهم مواجهة المشروع الكردي ( يصفه البعض بالانفصالي ) في الجزيرة السورية، الأمر الذي دفع بقادة “قسد” للإسراع بطلب مؤازرة من مجلسي دير الزور والرقة العسكريين، ألا أن الاستجابة لم تكن بالشكل المطلوب، إلى أن وصلت أرتال كبيرة من ريف حلب الشرقي بدعم من مجلس منبج العسكري لترجيح الكفة، بعد إطلاق ضابط في قوات النظام تهديدات باقتحام الجيش السوري لحي طي، من قبل فوج القوات الخاصة في قرية طرطب ( كانت قرية سريانية قبل تهجير اهلها السريان ) جنوب القامشلي، وهو فوج يتبع للفرقة 18 مدرعات في جيش النظام، والتي تنتشر في محافظات الحسكة والرقة ودير الزور.
كما عينت القيادة العسكرية في جيش الأسد مؤخراً العميد الركن نضال دليلة نائب قائد الفرقة 17 مشاة، قائداً عسكرياً في محافظة الحسكة. وهذا ما يفسر أن تعيين ضابط مشاة قد يكون مقدمة لاقتحام الحي وإعادته إلى سيطرة النظام، أو تمكين الميليشيات الحليفة في حال عادت الاشتباكات والاضطرابات إلى نقطة الصفر.
وعلى إثر ذلك، قام القائد العسكري في “قسد”، مظلوم عبدي، بالاتصال مع ضابط الارتباط الأمريكي لمعالجة الموضوع قبل ذهاب المنطقة إلى مالا يحمد عقباه عبر نزاعٍ عرقي، يحوّلها إلى ساحة صراع تغذيها دولٌ إقليمية-دولية. وفي ظل تلك الظروف يصعُب عودة الاستقرار، الأمر الذي قد يعيد تنظيم “داعش” ( الشماعة رغم وجودها ) إلى المنطقة، والانتشار من جديد.
وقد يعود السبب في ذلك إلى تدخل القوات الروسية وتقديم وساطة تقوم بموجبها ميليشيا الدفاع الوطني بالانسحاب من الحي، وبقاء قوات النظام داخل مطار القامشلي، مع تسيير دوريات بالشراكة بين الروس والأسايش الكردية (قوات الأمن الداخلي).
ولحي طي والأحياء المجاورة له، التي يسكنها العرب، أهمية خاصة من خلال قربها من مطار القامشلي، الذي يتيح التنقل لضباط النظام ومسؤوليه بين مناطق سيطرتهم في الجنوب الغربي من سوريا والمنطقة الشرقية. لذلك فإن خسارته دون اتفاق يبقي قوات النظام في المطار؛ يُصعّب مهمة التنقل في ظل وجود مجموعات لـ”داعش” في البداية السورية تستهدف أرتال الميليشيات الحليفة لنظام الأسد.
وبناء على ما سبق، تبدو التداخلات الإقليمية والدولية مساهماً كبيراً في تغذية الصراع والشقاق السوري، الأمر الذي يصعّب المهمة، ويطيل أمد التعافي المجتمعي.
درويش خليفة