[jnews_post_author ]
في مثل هذا اليوم، الثامن والعشرين من شهر أيلول عام 1970، توفي الرئيس المصري جمال عبد الناصر عن عمر لم يتجاوز 52 عاماً. وقد بكاه القوميون العرب بحسرة، وخرجت له جنازة شعبية ورسمية في القاهرة يوم 1 تشرين الأول قلّ مثيلها في العالم كله. وبالرغم من مرور خمسين سنة على غيابه، مازال عبد الناصر حاضراً في العقل الجماعي للأمة العربية، وله الكثير من المريدين والمعجبين… والعاشقين…إضافة طبعاً لعدد لا يُستهان به من الأعداء.
مع ذلك حافظ عبد الناصر على مكانته في قلوب الجماهير، أولاً بسبب تلك الكاريزما الفريدة التي كان يتمتع بها، والتي لم يُضاهِه بها أحد بالمطلق، وثانياً لأنه مات فقيراً ولم يجنِ ثروة من منصبه رئيساً لمصر من عام 1954 وحتى عام 1970. وثالثاً لأنه وبالمقارنة مع حكام اليوم في الزعماء العرب، يُعتبر عبد الناصر رجل قول وفعل، صادقا وجريئا وصاحب كلمة، بغض النظر عن مدى حكمته وصواب قراراته. يذكره الناس بإنجازاته، ابتداءً من نجاح ثورة يوليو وتأميم قناة السويس، مروراً برد العدوان الثلاثي عن مصر وقيام الوحدة مع سورية سنة 1958. ولكن في مسيرة الرجل الكثير من الإخفاقات والهزائم، وحتى الكبائر، منها هزيمته في عام 1967 وإدخال نظام المباحث على مصر وحياة المصريين، الذي مازال قائماً حتى اليوم. أما القصص المخفية من حياة الرجل، فقد ظلّت قيد الكتمان أو التغييب القسري، ولكن لا يمكن تجاهلها اليوم لو أردنا الوقوف على تاريخ عبد الناصر الكامل والحقيقي في الذكرى الخمسين لوفاته.
أولاً: دوره في ثورة عام 1952
عبد الناصر لم يكن بطل ثورة الضباط الأحرار التي أطاحت بحكم الملك فاروق سنة 1952. الحقيقة أن نجاح تلك الحركة يعود إلى قيادة اللواء محمد نجيب الحكيمة والمتزنة، وهو أكبر الضباط الأحرار سناً ورتبة، مما خوله لأن يصبح أول رئيساً لمصر من عام 1952 وحتى عام 1954. وفي مذكراته يقول اللواء نجيب إن عبد الناصر لم يشارك بالاستيلاء على مقر قيادة المصري في 23 يوليو، بل فضّل التواري عن الأنظار والانتظار في مكان قريب حتى يتأكد من نجاح رفاقه. كان يرتدي ملابس مدنية يومها، تمكنه من الفرار بسهولة لو فشلت الخطة، وقد وضع ملابسه العسكرية في سيارة أوستن سوداء بالقرب من مقر القيادة، للجوء إليها بسرعة عندما ينجح زملاؤه في عملهم.
العلاقة مع الإخوان المسلمين
يتناقل الجيل الجديد من الناصريين، بكثير من الإعجاب والفخر، خطابات عدة لعبد الناصر، فيها تهجم عنيف على تنظيم الإخوان المسلمين، متناسين أن الرجل بدأ حياته حليفاً لهم ضد الملك فاروق. وفي تلك المرحلة كان له اسمه حركي لديهم وهو “زغلول عبد القادر.” وقد اتصل عبد الناصر بالمرشد حسن الهضيبي بعد نجاح الإنقلاب وعرض على الإخوان ثلاث حقائب وزارية، وبالفعل تم توزير الشيخ حسن الباقوري في أول حكومة عسكرية شكلّت سنة 1952. تسلّم الباقوري يومها حقيبة الأوقاف وعمل مع عبد الناصر الذي كان وزيراً للداخلية. وعندما قرر الضباط الأحرار ضبط وضع الأحزاب في أيلول 1952 والطلب منهم الحصول على ترخيص جديد من وزارة الداخلية أصر الوزير عبد الناصر على استثناء الجماعة من القرار معتبراً أنها حركة وطنية وليست حزباً. كل هذا حصل قبل نشوب الخلاف بين الإخوان والعهد الجديد، حيث اختلفوا على عسكرة الثورة، وعلى إعلان الخلافة بدلاً من الجمهورية، وأخيراً في تحديد الحد الأدنى لملكية الفرد، حيث أرادها الإخوان 500 فدان وأصر عبد الناصر على 300 فدان.
محاولة الاغتيال
في 26 تشرين الأول 1954 جرت محاولة اغتيال لعبد الناصر المعروفة بحادثة المنشية، ومعظم الظنّ أنها كانت مسرحية مرتبة من قبل الرجل، لضرب الإخوان وزيادة شعبيته في الشارع المصري. نقول مسرحية لأن المتهم بإطلاق النار محمود عبد اللطيف كان معروفاً بمهارته في إصابة الأهداف، وهو فدائي محترف له خبره في محاربة الإنكليز في قناة السويس. والمسافة بينه وبين عبد الناصر كانت قريبة وتسمح له بإصابة الهدف، وهو جسد عبد الناصر العملاق. ثم إنه وبحسب التحقيقات كانت الرصاصات تسعاً، وكان من المفترض أن يصاب الرجل بواحدة على الأقل، ولو بإصابة سطحية. إضافة، لو أراد الإخوان حقاً التخلص من “الريّس”، لماذا لم يرسلوا خمسة أشخاص لتنفيذ العملية واقتصروا مهامهم على شخص واحد؟ الإخوان نجحوا في اغتيال النقراشي باشا قبل سنوات، وكان من المفترض أن تكون خبرتهم الحربية قد تضاعفت مع مرور الوقت. وقد ثبت أن الحائط الذي كان يقف أمامه الرئيس لم يصب بأي طلق ناري، مما يعني أن الرصاص كان خُلبياً.
إبعاد اللواء نجيب واعتقاله
معظم كتب التاريخ تتحدث عن رئيس الدولة السورية نور الدين الأتاسي، وتصفه بالسجين السياسي الذي قضى أطول فترة في المعتقل، من تشرين الثاني 1970 وحتى صيف العام 1992. ولكن عبد الناصر فعل ذات الشيئ يوم أمر باعتقال صديقه اللواء محمد نجيب في تشرين الثاني من العام 1954. وضع الرئيس المصري المخلوع تحت الإقامة الجبرية في فيلا مصادرة كانت لزينب الوكيل زوجة مصطفى النحاس باشا، ، طوال ثلاثة عقود من الزمن حتى عام 1984. منعت عنه الزيارات أو الخروج طوال ثلاثة عقود كاملة. وفي مذكراته، يقول نجيب: “عاشت أسرتي مع الكتب والأوراق، ومع الحشرات والفئران والثعابين وكميات لا وزن لها من الأتربة.” وقد جاءه أحد أبنائه يوماً، وسأل: “أبي هل صحيح أنك كنت رئيساً للجمهورية؟” أجابه الرئيس المخلوع بنعم “وما الذي جعلك تسأل هذا؟” أخرج الفتى كتاباً للتاريخ من المنهاج الرسمي المصري، جاء فيه أن جمال عبد الناصر هو أول رئيس لمصر. شطبوا اسمه من كتب التاريخ، وضيقوا العيش على أبنائه، حتى توفي أولهم “فاروق” بعد فترة اعتقال في أقبية المخابرات المصرية، وأجبر أصغر أولاده على العمل سائق سيارة تكسي وهو ابن رئيس مصر بمعرفة جمال عبد الناصر.
السلام مع إسرائيل
بعد نجاح الثورة جاء الملحق الصحفي المصري في باريس عبد الرحمن صادق وقال لعبد الناصر إنه فتح خط تفاوض سري مع إسرائيل عبر دبلوماسي إسرائيلي تعرف عليه في إحدى مناسبات الأمم المتحدة، وكان ذلك بعلم وموافقة الملك فاروق. سأله ماذا يجب أن يعمل الآن بعد خلع فاروق عن العرش، فطلب منه عبد الناصر أن يكمل المفاوضات، وأن يرسل له تقريرا مفصلا عن مجرياتها عبر الحقيبة الدبلوماسية، وأن يقول للمفاوض الإسرائيلي إنه مُكلف من قبل ضابط رفيع في مجلس قيادة الثورة دون ذكر اسمه. وبالفعل، تمت المفاوضات بعلم ومباركة عبد الناصر، وطلبت من خلالها إسرائيل أن تتوقف مصر من تحريض إذاعاتها ضد الدولة العبرية، وبالمقابل، وعدت أن تستخدم ما لها من نفوذ عالمي لإقناع الإنكليز بالانسحاب من قناة السويس، شرط أن تبقى مفتوحة أمام الملاحة الإسرائيلية. وافق عبد الناصر على كل الطبات، وبالفعل، ضبط إيقاع الإعلام ومنع أن تتم أي عملية فدائية من جانب الحدود المصرية. ولكنه لم يكن مسيطراً على الحدود الأردنية، وعند قيام أحد الفدائيين الفلسطينيين بعملية ضد إسرائيل، ردت إسرائيل بهجومها الشهير على قطاع غزة سنة 1955 بقيادة ضابط شاب يُدعى أرئيل شارون، وتوقف التعاون المصري الإسرائيلي عند هذا الحد. ولكن هذه القصة ظلّت مطوية لسنوات طويلة، لأنها كانت لا تنسجم مع الصورة التي رسمها عبد الناصر لنفسه، بأنه عدو إسرائيل رقم واحد، وكانت طبعاً لا تعجب جمهوره من الناصريين، وتحديداً بعد هجومهم العنيف على الرئيس أنور السادات، عند زيارته إسرائيل عام 1977 وتوقيع اتفاقية كامب ديفيد بعد عام.
———————————————————————————————–
أمير سعادة