ميديا – الناس نيوز ::
جنوبية – وجيه قانصو – قد تختلف مع وليد جنبلاط في كثير من مواقفه السياسية. قد لا تتحمس لزعامته التي لا تُكتسب بل تنتقل بالوراثة العائلية. قد لا تستسيغ براغماتيته التي تجمع بين المبدئية والمساومة، وتُبقيه في منطقة اللاوضوح واللاحسم والخيارات المفتوحة، وتُبعِده عن التصلّب إزاء المتغيرات وتحفظ له خط العودة عن مواقف سابقة.
لكنك، رغم كل ذلك، لا تشك أن وليد جنبلاط لا تستغرقه تفاصيل لعبة السلطة وشراسة الصراعات الداخلية، ولا يضيع بوصلة الخيارات الكبرى والمواقف المصيرية مهما اشتدت الضغوط وتعقّدت الأزمات.
لا يتملّكه الانفعال، ولا يجرّه الغضب إلى التهور. لديه شجاعة الاعتراف بالخطأ والتراجع عن مواقف أو تحالفات أو ولاءات أو شعارات أبطل الزمن مسوّغها وأفرغها من معناها. لا يتحرّج من التنازل لصالح ما هو أهم. يملك قدرة استشعار قوية للآتي، يستبق الأحداث ليسدّ عليها مداخل الوقوع في الهاوية.

سوريا بعد الأسد… خيار الدولة وليس العصبية
هكذا وجدناه بوضوح في تحولات سوريا وأحداث السويداء. ما بدا في ظاهر مواقفه ومبادراته متناقضًا وغريبًا، مثّل في عمقه رسم إطار وتحديد وجهة في التعامل مع المتغيرات الجديدة إثر سقوط نظام بشار الأسد. سارع إلى دعم السلطة المركزية الجديدة، لا لإعلان الولاء وتقديم الطاعة، وإنما كسبيل وحيد وخيار حصري لمنع سوريا من التقسيم، ومن تفتيت الهوية الجامعة إلى كتل عصبيات تقوم على الرغبة الهائجة بتحطيم من حولها، وإلى هويات تُغالب الزمن وتُبكّت العقل وتنقض منطق الأشياء، تتحوّل معها سوريا إلى جحيم صراعات دموية لا تتوقف، وإعدام لكل أشكال الحياة، ومنبت أصوليات تشتدّ وحشيّة وحقدًا على الوجود الإنساني نفسه، وساحة صراع ونفوذ بين دول طامحة بتوسيع مدى نفوذها من جهة، ودول أخرى كإسرائيل ما يزال حلم “أرض الميعاد الكبرى” يداعب مخيّلتها ويستثير شهيّتها من جهة أخرى.
لم يبارك جنبلاط لنظام الحكم الجديد أيديولوجيته الجديدة، ولا تعنيه تفاصيلها العقائدية ودوافعها الغيبية، فهذا شأن سوري. إنما يعنيه أن تبقى سوريا بعد سقوط نظام الأسد، ويعنيه أيضًا أن يصوّب خيار الدروز داخلها. وهذا لا يكون إلا ببقاء الدولة ومؤسساتها العمومية، وتعزيز سلطتها المركزية، ودعم حصر السلاح بيدها، لتكون الدولة الجهة المعنوية الوحيدة التي تضمن للفرد والجماعات أمنهم وكرامتهم وتحفظ حقوقهم. النظم تذهب، والأيديولوجيات تتعرّى مع الزمن ويكفل التاريخ إسقاطها، لكن الدولة المركزية تكفل بقاء سوريا الجامعة كلها، بمكوّناتها وأديانها وإثنياتها، بذاكرة موحّدة ومتلونة، بهوية لا تعاند الزمن أو تتصلب أمامه، وتتسع بداخلها لتنوّع هائل من الاختبارات الحياتية والرموز والحكايا والسرديات والمعاني.
وظّف جنبلاط رمزيته الدرزية، ليقول إن الملة الدينية ليست فكرة معلقة في الهواء، أو مُتّحدات منعزلة تسدّ على نفسها منافذ الضوء والهواء من الخارج، بل ليست هوية عابرة للحدود، أو وجودًا فوق التاريخ والجغرافيا. فبقدر ما إن الحكمة جوهر عقيدة الموحدين الدروز، التي لا تتحصّل بالمعرفة النظرية فحسب، وإنما بالتدبر الباطني والمسلك العرفاني الذي يهب الإنسان المعرفة النورانية التي تقف على مشارف التوحيد النقي الخالص والأسمى، فإن الهوية الدرزية لا تملك إلا أن تتآخى مع من يجاورها، وتنجبل مع غيرها داخل محيطها بوجود واحد ومصير مشترك. ذاتيتها الباطنية المنفتحة على المطلق لا يُخولها أن تسدّ على نفسها منافذ السعة والرحابة، ولا يناسبها أن تحجب ضوء الأفق البعيد عن بصرها وبصيرتها.
تصويب التاريخ… وانحياز للهوية الكبرى
ما فعله جنبلاط هو أنه استجاب لحقيقة درزيته، أو لنقل إنه حسم التخبط الحاصل في تأويل وفهم هذه الحقيقة ومعنى وجودها وبقائها وطرق تدبير أمورها، وترجمها خيارًا تاريخيًا تُبنى على ضوئه المواقف ويُرشّد به صنع السياسات. خيار تجلّى به خيار الدولة، والدولة فقط، مهما لحق في عملية بناء الدولة من غبن وخسائر وحتى مظلومية، وسدّ الطريق على الأحلام الطفيلية بالانفصال والحكم الذاتي واستدعاء الحماية الخارجية، التي تنتهي بقائليها تلقائيًا في الحضن الإسرائيلي، بالوهم الحاصل بأن إسرائيل توفّر لهم قوة دعم وحماية واستقلالًا.
هذا يعني أن جنبلاط حسم الخيار العربي، هوية وانتماء وذاكرة ومصيرًا وشبكة مصالح، على الخيارات التي تفصل الدروز عن مجالهم الطبيعي ومنبتهم التاريخي وفضائهم الإسلامي، رغم ما يعانيه الدروز من صعوبة الاعتراف بهم خيارًا مشروعًا وأصيلاً داخل الخيارات الإسلامية المتنوعة. وحسم خيار الكيان السياسي بأن يكون الدروز جزءًا من كيان أوسع وأشمل، بدل الوقوع في مأزق أو فخ الأمن والحماية الذاتيين.
وحسم الجدية القومية والثبات الأخلاقيين بالانحياز الصلب للقضية الفلسطينية ضد الكيان الصهيوني. وحسم التصور بأن علاقة الدروز مع غيرهم من المكونات الأخرى ليست علاقة تناقض وصراع وتوجّس وخوف متبادلين، بل علاقة الحياة الواسعة والقيم الجامعة. وأخيرًا، أنجز الفصل الصارم بين خصوصية الهوية الدينية وبين الهوية السياسية التي لا تتأسس إلا على قواعد عقلية كلية يقرّر طبيعتها الحوار والتواصل المنتج والتفكير الجمعي.
لم يُعطِ جنبلاط شرعية سياسية للنظام السوري الجديد، بقدر ما وضعه أمام مسؤوليته ببناء دولة حقيقية، لا بتحويل سوريا إلى نظام غلبة لمكوّن على مكوّن آخر، أو سلطة عقيدة دينية تتسيّد بالقهر. ولم يُفرّط بحق أهل ملّته، في لبنان وسوريا معًا، بقدر ما صوّب خياراتهم التاريخية، وحثّهم على عضّ الجرح، وتحمل الألم الثقيل، وعدم الاستجابة لنداءات الثأر والسقوط في أوهام الانفصال ومنزلقات الأمن الذاتي، التي قد تحقق مكاسب آنية لكنها تدفع بهم في نهاية الطريق إلى الانتحار الجماعي.
ما فعله جنبلاط في سوريا، يجعله بحق صديقًا للحكمة.

الأكثر شعبية


الضمير الثقافي…

نموذج سوري: الخلاف حول اتحاد الكتاب العرب

