ميديا – الناس نيوز ::
عزام حسن – رصيف 22 – برلين – لندن – بداية العبور، كانت علاقتي مع ضحى سيئةً جداً، وتوقفت عن الأشياء التي كانت تفعلها مثل الكتابة. كنتُ أحاول صنع حياة أخرى مختلفة، لكن في السنتين الأخيرتين عُدت للصحافة والكتابة، وأدركت أنّ هذا المجال يُشبهني وليس ضرورياً أن أهرب منه”؛ هذا ما يقوله جود حسن، وهو كاتب وصحافي فلسطيني، وعابرٌ للجندر والأفكار المجتمعية السائدة.
قسوة أن أكون فتاةً
في حديثه إلى رصيف22، يرى جود حسن أننا “كلنا عابرون”، شارحاً: “جميع الناس يمرون بمرحلة العبور في مرحلة ما من حياتهم، حيث يتعرضون لمواقف وأحداث مفصلية تُغيّرهم”.
ويضيف جود: “كل البشر يمرون بمرحلة العبور سواء عاطفياً أو مهنياً أو مجتمعياً، والمسألة لا تقتصر على العبور الجندري”.
يعتقد جود حسن أنه كان أكثر حريةً في التعبير عن نفسه في طفولته مقارنةً مع فترة المراهقة: “لا توقعات جدّية في تلك المرحلة العمرية والفروقات الجندرية غير مهمة. ما أتذكره أنني كنتُ أحب ارتداء الملابس واللعب مثل الذكور”.
تغيّرت الأمور عندما دخل جود مرحلة المراهقة. يقول: “أتذكر أول مرةٍ أحسستُ فيها بقسوة أن أكون فتاةً وينمو لي ثديان. كان فصل الصيف قد بدأ وهممنا بالذهاب إلى المسبح، فجلبَت لي والدتي ‘مايوه’ لأول مرة لأغطي الجزء العلويّ من جسدي بعد أن كنت أكتفي بلبس ‘الشورت’. شعرتُ حينها بأنّ هنالك خطأً ما دون أن أعرف ما هو، كنتُ أستحمُّ وأنا أضغط على صدري لأنني لا أريد لثديي أن ينموا”.
يتحدث حسن عن جلسةٍ مع صديقاته حين كان في الخامسة عشرة من عمره. كانوا يشاهدون الكابتن ماجد. أبدَت الصديقات إعجاباً شديداً بشخصية بسام، وحين سألنه عن رأيه بمن يعجبه أكثر أجاب: “ما حدا”.
تعليقاً على هذه النقطة، يقول جود: “كل ما كنت أراه أنا المراهق الصغير، هو نفسي وأنا أركض في الملعب، مرتدياً ملابس الفوتبول. كنت أرى الفتيات يُعجبن بي كما لو أني واحد من الصبيان”.
ويضيف: “في أحد أفلام الكرتون التي كنت أتابعها، كانت البطلة تضع رسالةً تحت الوسادة ثم تتمنى أمنيةً لتنام وتستيقظ على تحقق أمنيتها، وبدوري، كنت أفعل ذلك كل ليلة وأتمنى أن أصبح صبياً، وأشعر بالخيبة كل صباح لأنّ أمنيتي لم تتحقق، وفي ذلك الوقت لم يتكلم أحد أمامي مرةً عن العبور فلم أكن أفهم ما يجري، والمجتمعات العربية بشكل عام ترفض وتقمع كل ما هو مختلف عن الأنماط السائدة لشكل الإنسان وميوله وتوجهاته”.
الصراع بين جود وضحى
يصف جود حسن صراعه الداخليّ بأنه صراعٌ بين جود وضحى: “جود كان يرفض بلوغ ضحى وحاول منع اللقاء بها”، واتضحت ملامح هذا الصراع مع دخول ضحى إلى المدرسة وامتدّ إلى الجامعة: “كانت ذروة هذا الصراع في المناسبات مثل الأعياد والأعراس والحفلات، حيث كان عليها أن تشبه أخواتها وصديقاتها، أي أن ترفض جود، تكبته وتقمع وجوده. لا أحد يعلم بوجوده ولا حتى هي، لكنها كانت تفتقد شيئاً عاشته في طفولتها. هو إحساس لم تفهم مصدره”، وفق قول جود.
ويتابع: “لم تنسَ ضحى جود يوماً، لقد كانت تشعر به معها دائماً. لكنها وجدت في النشاط السياسي والعمل الصحافي تعويضاً عن الفقدان الذي لازمها منذ مرحلة البلوغ، إذ تفوق كثافة الأحداث فيهما وخطورتها، حضور جود فيهما”.
وحين خرج جود من دمشق بدأ يشعر بالحرية أكثر في تعبيره عن نفسه ولم يكن يعلم بأنه يستطيع إجراء عملية عبور جنسي: “أخبرني صديق عابر في إحدى مظاهرات بيروت بأنّ هناك غروباً في فيسبوك يجب أن أراه وهناك عرفتُ أن هناك أناساً كثيرين مثلي ومعظمهم بدؤوا بالعبور سواء بالعمليات أو الهرمونات أو كليهما، وهي اللحظة التي أدركتُ فيها أنني أستطيع أن أكون مثلما أريد أن أكون”.
التغلب على الخوف .
“بعد أن علم جود بأن ضحى عرفت الطريق إليه، لم يعد قادراً على الاختفاء، بل أكثر من ذلك أراد الخروج من المكان الذي قبع فيه متخفياً أكثر من 30 عاماً، ومع الوقت بدأت تظهر ملامحه على وجه ضحى، لكنه لم يتجلَّ بشكل كامل”، وفق ما يسرد جود.
اتّخذ جود قرار العبور، ولكنه كان يشعر بالخوف من ترجمته: “الخوف من المجتمع والأهل برغم بعدهم، لكنّ هنالك لحظةً تبخّر فيها كل ذلك الخوف”.
ويصف حسن اللحظة التي تغلب فيها على خوفه وقرّر اتخاذ قرار العبور: “في 4 آب/ أغسطس 2020، قبل يوم واحد من عيد ميلاده، كان يجلس بهدوء داخل منزل يطلّ على ميناء بيروت. فجأةً سمع صوت طيران. ولأنه معتاد على الحروب، قفز بسرعة إلى الغرفة المطلة على الجهة الداخلية، لارتداء حذائه والنزول إلى الشارع، لكن كل شيء حدث بسرعة. اقترب خيال أسود غطّى السماء، فقفز إلى داخل الخزانة وتقوقع داخلها، وانفجز المنزل كلياً. دُمّر كل ما فيه. فتح جود عينيه لينظر حوله مذهولاً من كمّ الدمار. حينها اختفت ضحى، وبقي جود وحده”.
في هذه اللحظة، بدأ جود يتساءل: “إلى متى سأبقى خائفاً من الناس والمجتمع؟ كدتُ أموت وأنا في جسدٍ ليس لي”.
تأثير وتأثُّر
في البداية، كان كلّ ما يقرأه جود ويسمع عنه يعود لأشخاصٍ أجانب لكنه يؤكد: “عندما نسمع أصواتاً من مجتمعاتنا، فهذا يجعل الآخرين يشعرون بأنّه من الممكن أن تتغير حياة الإنسان، مثلما أتى صديقي وعرّفني على غروب الفيسبوك وبعدها تعرّفت إلى أولئك الأشخاص كلهم، ومن ثم تلك اللحظة التي عرفتُ فيها أنّ احتمال العبور موجود، وذلك ما غيّر حياتي كلها”.
قبل سنة ونصف، أرسلَت والدة جود رسالةً إلى ابنها بعد أن عرفت أنه بدأ برحلة العبور: “لم أعرف ما يجب قوله، فأخبرتها عن مقابلة أُجريت مع شابٍ مصريّ اسمه نور، قصته تشبه قصتي، وبعد مشاهدتها اتصلَت بي وأخبرتني ‘هلأ فهمت تماماً شو كنت عم تحس'”.
وعلى هذا النحو، كانت تأتي لجود العديد من الرسائل والتعليقات والإيميلات من أشخاصٍ تأثروا به: “كثر أرسلوا لي أنهم كسروا حاجز الخوف من ردة فعل الأهل، ومنهم من كان متردداً في العبور وحسم قراره، وأخبروني بأنهم تشجعوا ليتصالحوا مع أنفسهم وشعروا بأنهم ليسوا وحدهم، وهذه حلقة من التشجيع فكما تأثرتُ بقصص الآخرين، هناك من تأثّر بي”.
جائزة سمير قصير وأعمال تُلاقي صدىً
نال جود حسن، جائزة سمير قصير للصحافة المستقلة في العام 2013: “كنتُ أعمل في الصحف اللبنانية منذ سنة. نيلي الجائزة أعطاني دفعاً معنوياً وحمّلني مسؤوليةً كبيرةً تجاه الصحافة والكتابة والالتزام بالدفاع عن حرية التعبير ومحاربة الديكتاتوريات، لأنني أعدّ سمير قصير من أهم الكتّاب الصحافيين والمناضلين. أعطتني الجائزة دفعاً كبيراً ووفرت لي الكثير من الفرص، وأنا ممتنّ جداً لتلك اللحظة”.
لا يعتقد جود أنه يستطيع تحديد أكثر أعماله التي لاقت صدى، ويرفض تسميتها بالإنجازات، وهو لا يفخر بها وإنما يعدّها مصدراً للرضا: “قد تكون أكثر المقالات التي لاقت صدى هي التي كتبتُ فيها عن حافظ الأسد، وكيف كنا نُعامَل في مدارس البعث (حين قالت لي معلمتي: حافظ الأسد كما الله لا يموت)، وهي التي فازت بجائزة سمير قصير، وأيضاً التغطية التي أجريتها في الرقة أخذت أصداءً في تلك المرحلة، وعندما انتقلت إلى برلين في 2015، كتبتُ مقالةً عن المنفى ‘وكيف بطّل منفى’، لاقت رواجاً لأنّ إحساساً جماعياً بالغربة والمنفى كان موجوداً، وكانت قد تُرجمت مقالة جود عن الارتطام بالمنفى إلى اللغتين الإنكليزية والفرنسية”.
ومن الأشياء التي شعر جود بالرضا والامتنان لإنجازها كانت كتابه “دليل المواطن الصحافي في مناطق النزاع”، الذي يعدّه تجربةً مهمةً جداً، ونشر مركز المواطنة كل المقالات التي كتبها حول سوريا”.
ويضيف: “كنتُ محظوظاً بالعيش بين ألمانيا ولبنان، وقد غيّرت هويتي الجندرية في ألمانيا ولم تكن العملية سهلةً، لكنها شكلت عامل حماية بكل تأكيد”.
أعمل صحافياً ولستُ “جود ترانس”
يرفض جود حسن، تنميطه وتخصيصه في مجال الكتابة عن الجندر والعبور: “أنتَ لاجئ تُطلب منك الكتابة عن اللجوء، وسوري تُطلب منك الكتابة عن السوريين، وعابر فتُطلب منك الكتابة عن العابرين والعابرات. أرفض هذا التأطير. طبعاً أحب أن أكتب حول العبور وأشعر بأن الكلام في هذا الموضوع واجبٌ عليّ برغم كمّ التعليقات السلبية، ولكن أحب الكتابة في مجالات أخرى”.
ويشدّد: “اسمي جود حسن/ صحافي، لا جود حسن/ ترانس”.
ويذكر جود أن عدداً من منصات الصحافة المستقلة تواصل معه لإجراء حوار، لكنه رفض ذلك: “لستُ كائناً فضائياً. ما بحب يتأطر الشخص ويتم التعريف عنه حسب هويته الجندرية أو غيرها. لما بدّي عرّف عنك بقول اسمك وشو بتشتغل ومهنتك مش أنت شو هويتك الجندرية”.
وعن انعكاس عبور جود على كتابته الصحافية، يقول: “الشيء الإيجابي أنني أصبحتُ قادراً على الكتابة عن العبور وأتكلم عنه أكثر، وقد وصلتني رسائل كثيرة داعمة من أشخاص أعمارهم صغيرة، وكتاباتي ساعدتهم في فهم ما يشعرون به، وقد ساعد بعضهم في تقبّل علاقته بأهله، وكان لديّ صديق يريد البدء بالعبور، فجعل والدته تقرأ أحد مقالاتي ثم تشاهد مقابلتي، وكان سهلاً في ما بعد أن يصارح أمه بأنه يشعر بالأشياء ذاتها”.
في الختام، يتحدث جود حسن عن تأثير العبور على حياته المهنية، ويقول: “أنا صحافي وأحب عملي هذا، وأكثر ما أحب تغطية الحروب، وأعتقد أنني خسرتُ هذه الفرصة، إذ من الصعب جداً كشخص عابر يعبّر عن نفسه بوضوح ولا يخفي شيئاً أن يذهب إلى مناطق النزاع ويغطي الحرب، ولا يمكن التنبؤ بالعواقب خاصةً في بلداننا، وأعتقد أيضاً أنني لم أعد أستطيع التقديم على وظائف في طيف واسع من وسائل الإعلام التي قد لا تتقبل فكرة العبور برغم أنني لم أجرّب ذلك صراحةً”.