محمد برو – الناس نيوز ::
كتاب جديد لمحمد أمير ناشر النعم.
جورة الهم تعبير شائع في مدينة حلب السورية ، يعبر عن مكان تكثر فيه الهموم والمصائب ويتطير منه، لكثرة ما يتكرر هذا مع هؤلاء الأشخاص في هذا المكان بالتحديد.
بالطبع هذا عائد لطبيعة معاناة فئة أو أشخاص بعينهم وليس بالضرورة أن يكون هذا حال عامة الناس، لكن سوريا ومنذ عقود ينطبق عليها هذا التعبير السوداوي، لشدة معاناة عامة أهلها في ظل نظام قمعي قروسطي مستبد، ينهب المقدرات دون الأخذ بالحسبان قدرته على الاستمرار في هذا النهب المبالغ فيه، وكأنه ينهب من مدن يجتاحها ثم يمضي الى غيرها غير عابئ بما سيخلفه وراءه، وهذا النهب يشترط لإنجاحه وبلوغ تمامه، ممارسة أعتى درجات العنف والاضطهاد، كيما تعجز الضحية عن التفكير بالمقاومة أو الدفاع عن حياتها، وهكذا كان شأننا نحن السوريون على مدى خمسين سنة أو يزيد.
عديدة هي فصول هذا الكتاب الرشيق، وغنية بالاستدلالات المهمة وشيقة أيضا، لكن فصلا متميزا ومتفرداً بعنوان “جراحات اللسان الديكتاتوري” لم يسبق لي أن وقعت على كتاب أو مبحث يعنى بهذه التفصيلة المهمة في ثقافتنا العربية، لكن كتابا غربيون اشتغلوا عليها زمن الحرب العالمية الثانية وبعدها، سيأخذنا الكتاب بعيدا في رحلة لبنى وتعابير لغوية تنشأ في ظل الديكتاتور، فتفسر وتوثق وتطبع حياة رعيته، وهي ما تزال تترسخ عبر ما يزيد عن خمسين سنة، تصبغنا بمفرداتها التي جذبت اليها معاني وقيم التصقت بها، وغدت في وجداننا التعبير الوحيد عنها، كمفردة المقاومة والحياد الإيجابي، والحياد السلبي والأمة العربية الواحدة، والرياضة بوصفها حياة، والأب القائد والرئيس الخالد والفلاح الأول، وغيرها كثير من المفردات التي طبعت الزمن البعثي أو الأسدي في تاريخ سوريا المعاصر.
ذهبية تلك العبارة التي يوردها الكتاب عن الروائي النمساوي “كارل كراوس 1874-1936” الذي عاصر الحرب العالمية في آخر أيامه (( كل كلمة تغير العالم، لكن ان كانت هذه الكلمة بنت الديكتاتورية فإنها لا تغيره بل تدمره))، واذا كانت اللغة النازية قد بنت مفرداتها استعارة من التكنولوجيا والطب والدين لإضفاء البريق التقني والعلمي والعاطفي فقد كان نهج نظام البعث في سوريا يستعير تعابيره من المقاومة والثورية والتأليه الذي يخلعه باستمرار على شخص قائده الفرد، جميع هذا يجعل من مهمة تطهير اللغة واعادتها لتكون بريئة من لوثات الديكتاتورية مستقبلاً، فعلا شديد الصعوبة ويحتاج لعقود من الفعل المنهجي.
سئل فرانك ديكوتير المختص بدراسة الطغاة: هل هناك اختبار لتحديد ما إذا كان الحاكم طاغية؟ فأجاب: الاختبار بسيط. اذهب إلى البلد الذي يشتبه في أنه يحكمه طاغية، وحاول العثور على من ينتقد الزعيم علنا، إذا كان من الصعب العثور على أشخاص مستعدين لانتقاد زعيمهم علنا فهذا يعني أنه طاغية.
المعلم تعبير شاع استخدامه في شتى مواقع السلطة للدلالة على أعلى الهرم في مؤسسة ما أو صاحب النفوذ الذي لا يرد له أمر.
في فصل شديد الطرافة والفرادة بعنوان “دراما المصادفات اللغوية” يأخذنا الكتاب في نزهة للمصادفات التي تنشء من اللغة وعبرها مخرجات لم تكن قائمة بالأصل في وجدان المتحدث او الكاتب، لكن هذه العبارات التي تتولد لمجرد الصدفة الموسيقية او البيانية في تركيب الجملة مثلما حدث مع صاحبنا ” يا قاضي قم قد عزلناك فقم” هذه العبارات تنشء واقعا جديدا وتصبح الكلمات فاعلة في صناعة عالم جديد، وحين ردد شبيحة الأسد وأزلامه في سوريا عبارة “الأسد أو نحرق البلد” كذلك عبارة “الجوع أو الركوع” ونقشوها على جدران الشوارع كأنها دستور للمرحلة، فعلت هذه العبارة فعل طبول الحرب في دفع الآلاف من القتلة إلى اشعال الحرائق وارتكاب المجازر على مدى سنوات طوال، تلك التي راح ضحيتها مئات الآلاف من الأبرياء، طبعا ليست العبارة هي من ولدت الفعل الاجرامي بل كانت معززة له ومشعلة للحماسة في نفوس اتباع الأسد، حتى أن تداولها وتكرارها ورفع العقيرة بها بات كأنه فعل صلاة مقدسة.
ليست الديكتاتورية وحدها قادرة على اجتراح لغتها وتكريسها وتوظيف دلالاتها وحصرها بها بل حدث هذا في العديد من الاتجاهات التي كان لها تأثير مديد وواضح في الحياة الإنسانية، فالصوفية أنشئت معجمها ومفرداتها ذات الدلالات الخاصة التي يعرفها اتباع المذهب ويذهل عنها غيرهم، ولذا يشتد الخلف بين من يعي تلك الدلالات المجازية ومن يتمسك بالحرفية النصية او بالسلفية اللغوية، فيقع الخصام في التأويل وربما كفر بعضهم بعضا على هذا الأساس، كذلك المحبين والعشاق والشعراء الغزليون بنو عبر تاريخ طويل معجما يفهمونه هم ومن يشاكلهم في تجربة العشق، ويضيع عن فهمهم من حرم هذه التجربة، والشاعر الكبير المتمرس، يجترح لغته الخاصة التي تميزه عمن سواه، فإنك إن قرأت قصيدة للمتنبي أو محمود درويش أو نزار قباني ستكتشف الشاعر دون عناء ودون أن يشير لك أحدهم أنها لهذا الشاعر أو ذلك، فلكل شاعر من هؤلاء قاموسه الذي يميزه.
بالعودة إلى جورة الهم فإن الكتاب مشطور بين المفاهيم والممارسات المطبقة لها، تلك التي جعلت من سورية جورة للهم، جورة الهم كتاب حافل بكل ما هو غني ومؤلم بدركاته الخمس كما قسمه صاحبه الأمير، اللغة والديكتاتورية، وجوه في زمن المجزرة، التحديق في الهاوية، لأواء المؤيدين، الثورة والمنفى والشتات، ليختمها بدركة الحضيض وليس دون الحضيض من شيء، يتحدث فيها عن بعض ما ناله وأهل بيته من تعرض للقتل المجاني من عناصر جيش طالما كنا نبعث بأبنائنا وأموالنا إليه ظنا منا أنه جيش البلد الذي سيحمينا، فإذا به جيش أعد لقتلنا، أصيب ولد الأمير بأربع طلقات نارية وعاش وأسرته أسابيع طويلة مع الألم، وفي النهاية نجا وسامح لكنه لن ينسى.