علي صقر – الناس نيوز ::
التغريبة الفلسطينية، وما لاحقها من حكايا تقشعر لها الأبدان من إبادة، وتهجير قسري، وجماعي .. ولمن لم يعش تلك المرحلة عاشها من خلال الإعلام،والدراما، وما نقلوه من حكايا الفلسطينيين المهجرين،وكان أكثرهم، ولحظة خروجهم من بيوتهم، ووصولهم لدول الجوار، كانوا يلوّحون بمفاتيح بيوتهم، ويخفون سندات تمليك بيوتهم أيضاً.. في التغريبة السورية المعاصرة، والمستمرة للآن، حدث ما حدث للفلسطينيين، وربما أكثر بكثير حيث عشنا ركام البيوت التي لم يتبق منها إلا الذكريات، ومفاتيح بيوتهم قبل تهديمها، وأخذ السيلفي مع ركام بيوتهم محتفظين بالمفاتيح، وسندات التمليك.. بقيت المفاتيح تلوح بالهواء، والذكريات وأما سندات التمليك فقد تم حرق السجلات العقارية في بعض من المحافظات كحمص، وغيرها من المدن السورية ..وبقي تحت الركام بقايا بشر، وسندات تمليك، وبقايا صور كانت معلقة على الجدران.. والآن، البعض منهم معلق على الحدود بانتظار الهروب لمكان آمن، وصدأت المفاتيح من كثرة التلويح لمن تبقى هنا في سوريا المحتلة من الجهات التسع ..واختفى صوت البائع الجوال: ألمنيوم عتيق للبيع … كراسي عتيقة للبيع.. ليحل محله صوت بائعي فوراغ الرصاص المحشو بداخلها بقايا بشر، وصوت بائعي الألمنيوم العتيق للبيع راح بخبر كان بعد أن بحَّ صوته، وهو يغني خدوا الكراسي، واتركوا لنا الوطن.. وطن عتيق للبيع .
.. وبقيت أحذيتهم عارية من الأقدام إنما تشير لمن تبقى من أنهم كانوا يمشون هنا، ويركضون هناك، ويتظاهرون هنا، ويعتصمون، ويستنكرون، ويؤيدون،وكانت أقدامهم ترجّ لها الساحات من مسيرات هنا،ومظاهرات هناك .. كان المؤيد بطريق، والمعارض بطريق غاب الاثنان داخل دوار ابتلعهما، وبقي الطريق يتحمل أحذية كل من عبروا. وبائع الأنتكيا تحول لبائع غزل البنات يذكرني صوته، ويلاحقني منذ صغري.. قولي لأمك قولي أجا بياع الغزولة
… أما في المناطق الآمنة التي تحت سيطرة النظام،والتي لم يتم تهديم بيوتها إنما تم تدمير نفوسها من أم لا تزال تنتظر ابنها المخطوف، لأب شيع ابنه الثالث، لأخت تقوم بمساعدة أخيها المعطوب من جراء تلك الحرب، وبقيت سندات التمليك بمكان آمنإلى أن استفحلت الضائقة الاقتصادية فيضطر الأب إلى بيع منزله من أجل تسفير ابنه إلى أي بلد كي لا يساق إلى الجيش، وهذه الحالات تجري على قدم وساق، والبعض ممن لا يملكون بيوتاً يقومون باستجرار قرض من البنوك العامة، والخاصة من أجل تسفير أولاده، كما كانت أم حسن بدير الزور تسمى موسكو الصغرى .
أولادكم ليس لكم.. أولادكم لأربيل .. وأقصد طرطوس لأنها المدينة التي سميت مدينة الشهداء، والكولبات، والمقصود بالكولبات من أن الدولة أعطت ترخيص كولبة لكل شهيد، وجريح،ولعدة أسباب عانت طرطوس من الضيق كان أهمها إغلاق المنافذ الحدودية من بر، وبحر بالإضافة إلىأن أكثر أبنائها موظفون بالدولة، ورواتبهم لا تسد إيجار المواصلات مما ساعد، وحفز هروب أبنائها من السوق إلى الجيش، والبحث عن لقمة العيش.. واتبع النظام سياسة التجويع الممنهج، وهنا انطلق المثل الطرطوسي: جوعوا، وطوعوا…
والآن تجويع، ولا تطويع مما اضطر الكثير من الشباب إلى الهجرة، وأكثرهم من أجل تأمين البدل للجيش”…” ، والبعض الهروب لمكان آمن لاكتشافهم فيما بعد أنهم كانوا ضحايا تلك الحرب، والهروب لمكان آمن حق من حقوق البشر، وعلى الأمم المتحدة أن تعتمده بنداً أساسياً بالشرعة الدولية لحقوق الإنسان، والتي كنت أعمل بها، وطالبت بذلك مراراً.
… وهنا انتشرت ظاهرت رهن البيوت لأمراء الحرب ( يمكن تصنيفهم كارهابيين وفق القانون الدولي ) ، وغيرهم من أجل حفنة من النقود من أجل تسفير أولادهم، وأصبح سند التمليك رهينة عند تجار الأزمة، وقل عدد المفاتيح لدى الكثير من الأهالي قبل المطحنة السورية كان متوسط أفراد العالة خمسة أشخاص أي بحوزتهم خمسة مفاتيح خطف الابن، واستشهد الثاني، وماتت الأم قهراً، وسافر الرابع،وبقي الأب يتكئ على مفتاحه الأخير.
حتى أن مصنّع المفاتيح قال لي خف شغلنا إلى النصف. وأيضاً اختفت أحذية أولادنا من أمام عتبات بيوتنا لنشاهدها عبر وسائل التواصل الاجتماعي تسير بشوارع أربيل، وأوروبا، والصومال متعبة تبحث عن أي فرصة للعمل، وبارقة أمل كي يلتقوا بأهاليهم.
والبعض نجده أمام السفارات ينتظر شق طريقه المجهول …،والمنظمات الإنسانية بحثاً عن المجهول، وأي مجهول يصلهم لبر الأمان، ومازال بائع الأنتكيا الجوال يدع صوته لرياح الخماسين هامساً أنتيكا عتيقة للبيع.. كراسي عتيقة للبيع.. أحذية، ومفاتيح عتيقة للبيع .. وطن عتيق للبيع.. ومازال صوت بائع غزل البنات بطفولتي، وأنا أركض خلفه…،وهو يردد شعاري اليومي قولي لأمك قولي إجا بياع الغزولي ..
كاتب سوري – الساحل السوري .