كانبيرا – الناس نيوز ::
لا يأتي أي حديث عن تغير المناخ إلا مقروناً بالخطر الذي يتهدد العالم الطبيعي والأنواع الحية التي يحضنها وإن اختلفت المخاطر وحدتها باختلاف الكائنات الحية. والحال أننا شهدنا ونشهد فعلاً تلك الأضرار المهولة التي تخلفها أنشطة بشرية كثيرة بدءاً بحرق الوقود الأحفوري كالفحم والنفط والغاز إلى اجتثاث الغابات في سبيل استغلال الأراضي في الزراعة وتربية المواشي، وليس انتهاء بالصيد الجائر لبعض الحيوانات التي تتمتع بأهمية تجارية كبيرة إلى حد أن البعض منها قد آل إلى الانقراض فيما ينتظر البعض الآخر هذا المصير. وليست الكائنات الصغيرة، مثل النحل و”الفراشة الملكية” و”اليعسوب”، استثناء هنا… ولكن لكم أن تتخيلوا كيف ستكون حال النظم الإيكولوجية إذا ما اندثر أحد تلك الأنواع الحية!
ولكن في المقابل تشير دراسات عدة إلى كائنات يصبّ تغير المناخ في مصلحتها فعلاً، أحدها النمل الأبيض، إذ وجد باحثون أنه يتغذى على الأخشاب الميتة أو الجافة بشكل أسرع في الظروف المناخية الأكثر دفئاً، كذلك تتكاثر موائله وجيوشه في مختلف أنحاء الكوكب، ما يقود تالياً إلى إطلاق كميات أكبر من الكربون المخزن في الأخشاب الميتة إلى الغلاف الجوي.
في تحقيق نشرته صحيفة “واشنطن بوست” أخيراً تستعرض القوة الكامنة في هذا الكائن البالغ الصغر القادر بأسنانه فقط أن يدمر مناطق برمتها. ويبدو أن عدونا، تغير المناخ، حليفه الأول.
في التحقيق الآنف الذكر يروي فرانسيس فينال قصة مطعم منسي خلف محطة وقود في وسط أستراليا، أو ما يسمى “المركز الأحمر”، بيئة قاحلة تتكون من صحارى عدة مختلفة.
في المطعم، ستجد أن شكلاً من الخراب نخر كل شيء فيما لم تسلم منه سوى الأجزاء المعدنية والبلاستيكية. يمسك كريس كوك إطار باب خشبي فيتكسر ويتكوم كما لو أنه ورقة مجعدة في قبضة كفه.
“لقد انهار ذلك كله ببساطة”، يقول كوك، أحد المديرين في “مكافحة الآفات في الإقليم الشمالي بأستراليا”، فيما يتأمل ألواحاً خشبية مهترئة تتدلى من السقف. منذ أن زار المبنى المهجور آخر مرة قبل ثلاث سنوات، كان آلاف من الضيوف الطفيلين منصرفين إلى زرع الخراب في المكان.
شرهون وعدوانيون ومراوغون، لم يجلب هؤلاء الضيوف سوى الدمار إلى مطعم “غالاكسي أودوتوريوم” في “ويكليف ويل”، نقطة استراحة صغيرة على أحد الطرقات السريعة تسمى “عاصمة أستراليا للأجسام الطائرة المجهولة” UFO capital of Australia. ويبدو أن الدمار عينه يتهدد أماكن كثيرة في القارة ما لم نردع الأعداد المهولة من “ماستوتيرميس داروينينسيس” mastotermes darwiniensis . يمثل هذا النمل الأبيض آخر الأنواع الناجية من أجداد الكائنات الحية التي تقاسمت المساحات مع الديناصورات قبل 150 مليون سنة. إنها عنيدة لا تلين. وبسبب تغير المناخ، فإنها، شأن أقاربها الضاربة في القدم، لا تبرح توسع نطاق انتشارها.
تتطرق “واشنطن بوست” إلى دراسة اشتملت على ست قارات ونشرت في مجلة “ساينس”Science في الربيع الماضي، وقد كشفت عن الحب الكبير الذي يكنه النمل الأبيض لكوكب يكابد الاحترار.
تحدثت في هذا الشأن إيمي زان، بروفيسورة في البيئة الاستوائية في “جامعة ميامي” فقالت إن “رد الفعل المتطرف كان مفاجئاً حقاً”. جمعت الباحثة الرئيسة في الدراسة أكثر من 100 عالم لوضع قطع خشبية في 133 موقعاً حول العالم، ثم قياس سرعة النمل الأبيض في التهام تلك الأخشاب في ظل ظروف مناخية مختلفة.
“لقد احتسبنا الأرقام مراراً وتكراراً”، تذكر الباحثة.وأكدت الدراسة أن النمل الأبيض تطلق الحرارة العنان له. لكل زيادة بمقدار 6 درجات مئوية في درجة الحرارة، ارتفعت القدرة على “اكتشاف أماكن الخشب واستهلاكه” سبعة أضعاف تقريباً لدى تلك الحشرات.
في الواقع، يعتبر النوع الأسترالي أحد أكثر أنواع النمل الأبيض بدائية، ويحتل المرتبة الأقرب إلى جذر الشجرة التطورية. يُطلق عليه اسم “ماستوس” mastos أو “النمل الأبيض الشمالي العملاق”. كذلك يملك قدرة استثنائية على التكاثر: في مستطاع أي نملة في المستعمرة أن تصبح الملكة عند موت العاهلة الحالية. وتتسلح هذه الحشرات بحنك واسع، ومعروف عنها أنها تلتهم الرصاص والبلاستيك والجلود والعاج والأسفلت. في إحدى الحالات، تخلص كوك من نملات مستعمرة توجهت إلى مواسير المياه لمبنى من الإسمنت وتسلقت ثمانية طوابق.
لطالما كان هذا النوع من النمل الأبيض جزءاً مثيراً للغضب من واقع الحياة في المناطق الاستوائية شمال أستراليا، المكان الوحيد الذي احتضنه في تلك البلاد سابقاً. ولكن على مدى العقدين الماضيين، بدأت الحشرات في ترسيخ نفسها في الجنوب.
في الغالب، يمضي كوك أيامه في القيادة حتى آلاف الأميال عبر الإقليم الشمالي الحارق. تقع تينانت كريك، على بعد أكثر من 10 ساعات من داروين، عاصمة الإقليم وأقرب مدينة، مجتمع صغير حيث يعكف الرجل على تجربة تستكشف ما إذا كان في الإمكان صد النمل الأبيض أو احتوائه بالطُعم أقله. ويبعث على القلق الأكبر التأثير المحتمل للنمل على البلدة الرئيسة في المناطق النائية الضخمة والمعزولة في أستراليا، إحداها أليس سبرينغز التي تحتضن 25 ألف نسمة، وتتمركز مباشرة في خط الزحف الواضح لمجموعات النمل هذه.
في رأي كوك لم يعد السؤال “هل سنشهد هذا الزحف، بل متى سنشهده. “سيصل النمل الأبيض إلى هنا، وحينها سيعيث في الأرض خراباً”.
ثيو إيفانز، عالم أحياء في “جامعة أستراليا الغربية” ومتخصص في النمل الأبيض، يقول إن النمل الأبيض الشمالي العملاق ظهر للمرة الأولى منذ حوالى 20 عاماً في بلدة تي تري، على بعد 800 ميل (1287.48 كيلومتر) جنوب داروين. إنه الآن آفة شائعة هناك، تقضم المنشآت وأشجار
هذا العام، وللمرة الأولى في التاريخ المسجل، واجهت منطقة جنوب أستراليا تفشي مرض استوائي مميت، “التهاب الدماغ الياباني” (عدوى نادرة إنما خطيرة يسبّبها فيروس التهاب الدماغ الياباني)، عندما تكاثر البعوض الناقل للعدوى بعد الفيضانات التي تفاقمت بسبب ارتفاع درجة حرارة الهواء، على ما يقول العلماء. في الولايات المتحدة، ما برح داء “لايم” (حالة مرضية تنجم عن بكتيريا بوريليا بورغودورفيري وبوريليا مايوناي) ينتشر مع انتقال حشرات القراد المصابة به إلى مناطق جديدة نتيجة ارتفاع درجات الحرارة. في المملكة المتحدة، تتغذى حشرات “المن” المدمرة على مزيد من الأنواع النباتية حيث تدفعها حرارة الربيع إلى وضع البيض في وقت مبكر.
ولكن يقول كوك، على رغم مخاوفه الشخصية بشأن الكوكب، “يعود تغير المناخ بالنفع فعلاً على صناعتنا (مكافحة الآفات). تجوب الأرض الآن أعداد أكبر من الصراصير، والفئران، وكل شيء [الحشرات والزواحف على أنواعها].
نعم، وتزحف جيوش النمل الأبيض لتجتاح مناطق عدة بحثاً عن مستعمرات جديدة، فيما يقف ارتفاع درجات حرارة الكوكب في صفها. وصحيح أنه شأن أي كائن حي آخر، ينطوي على فوائد عدة، من بينها تعزيز خصوبة الأراضي الزراعية وتحليل المخلفات، حتى أن بعض البلاد تستخدمه لأغراض طبية. ولكن ارتفاع أعداده لن يحمل إلا المزيد من الأضرار إلى عالمنا، وبناء على ما ورد سابقاً يبدو أن التصدي لتغير المناخ هو المفتاح في وضع حد لكائن صغير إنما فعله كبير.