د. غادة بوشحيط – الناس نيوز :
من بين الطرائف الساخرة للعملاق المصري “سعيد صالح” في إحدى المسرحيات المشهورة جداً جملة يقولها معلقاً على أخته التي جاءت تطلب إذن العائلة حتى تشتغل بــ”كباريه” قائلا لأبيه “ما هو عصر انفتاح”.
تبدو العبارة صالحة لكل زمان تطرأ عليه تغيرات نوعية، وإن كان التغيير سنة كونية عمقتها التكنولوجيات الحديثة مدعومة برأس المال، فإيقاع هذا التغيير صار صعب الاحتواء والتنبؤ بمآلاته، على الأقل تلك الفرضية التي دافع عليها “جيرالد برونر” المفكر السوسيولوجي والكاتب الفرنسي، والذي أصدر منذ أشهر قريبة كتاباً عن منشورات “المطبوعات الجامعية الفرنسية”، عنونه بــ”القيامة المعرفية” وهو يتصدر مبيعات هذه الهيئة العلمية الراقية جداً.
يعالج الكاتب راهن علم الاجتماع وسائل الإعلام، من خلال جرد لأهم الظواهر الإعلامية التي تميز الراهن والمحاولات التنظيرية المختلفة التي تتناولها إضافة إلى الحقول العلمية التي تعنى بتفسيرها.
ينطلق كتاب “برونر” من ملاحظة دقيقة، مفادها أننا نعيش حالة معرفية لم تعرفها البشرية من قبل، كمّاً ونوعاً ولكن كثرة المعلومات قد تقتلها، ثم يستفيض شارحاً التحولات الاجتماعية التي كانت الميديا سبباً فيها، متوقفاً عند تأثيرات التواصل الاجتماعي بشبكاته المتطورة والمتكاثرة، وكيف أسهمت هذه الشبكات في ظهور حملات عالمية كــ”أنا أيضا” و”حياة السود مهمة” في الولايات المتحدة الأمريكية، وكيف تحولت الحملات التي انطلقت بهاشتاغ على الشبكات الاجتماعية إلى مظاهرات عارمة، سلطت الضوء على معاناة مجموعات اجتماعية لكن دون أن تظل بلا مساوئ، فيتوقف ملياً عند إنزال تمثال “كريستوف كولومبوس” مكتشف أمريكا، الذي اتهم بالعنصرية وبالاستعباد، فقد كانت جل طواقمه البحرية من العبيد السود وإلى غير ذلك من نقاط العتمة غير المشرفة في حياة المكتشف والبحارة ذي الصيت العالمي.
سرعان ما تصاعدت أصوات شاجبة لهذه الأقوال وضرورة عدم الاستجابة لــ”الغوغاء العارفة”، في حين رأى آخرون أنه أمر جيد أن يقرأ التاريخ في سياقات أخرى، وضرورة الانفتاح على المصادر المتنوعة، ومحاولة الفكاك من فخاخ الأيديولوجيات وسردياتها الضيقة.
في العالم العربي يبدو الأمر مختلفا، فحتى وإن ساعدت وسائل التواصل الجديدة في رفع سقف الحريات في التعبير خصوصاً وساهمت في بروز قضايا كانت إلى وقت قريب يمنع الخوض فيها، إلا أن البنى الثقافية التي تحكمها بالأساس ثنائية الدين والسياسة (ولو أنهما وجهان لعملة واحدة) بتجذرها قد تحول دون ذلك، والخيارات التي تفرضها المصالح المرحلية.
يحرم الخوض في سير الزعماء مثلا بغير التبجيل، وكذلك بعض المشاهير كــ “أم كلثوم” مثلا، التي لا تزال تشغل الكثيرين بفنها وصوتها وتأثيرها في الشارع العربي على الرغم من الخمسين عاماً، تقريباً، على رحيلها.
كانت الراحلة “وردة الجزائرية” قد أبدت في إحدى حواراتها تعجبها من حالة “صناعة الفيديث” أو المشاهير في دولة مصر، وكيف يعشق المصريون ويتميزون عن غيرهم في احتضان الفن والمشتغلين به.
لا عجب في أن تتعالى أصوات شاجبة ومستنكرة لكل من يخوض في سيرة أعلام مصر، وذلك ما لقيه الصحفي محمد بركة العامل في مؤسسة الأهرام العريقة، بعد إصداره لرواية “حانة الست” عن دار “المثقف” بالقاهرة من أشهر قليلة.
تعتبر رواية “حانة الست” عملا جريئا، ليست الأولى التي تخوض في حياة أحد أهم الأصوات في العالم وأقواها، ولكن تميزها يأتي من جرأة الكاتب في حد ذاته، والذي يبدو أنه قد بدأ بدفع ثمنه حسب الحوار الذي أجراه مع جريدة “الناس نيوز ” الأسترالية الإلكترونية “
يعود الكاتب في روايته هاته على حياة سيدة الغناء العربي، منذ مولدها في قرية تابعة لمحافظة السنبلاوين وحتى جنازتها التي هزت المصريين وكل عشاقها في العالم العربي .
يرى بركة أن الشكل الروائي الذي اتخذه العمل قد بدى الأنسب بعد أن تقدم أشواطاً كبيرة في كتابة العمل في شكل متوالية قصصية، ما اضطره لإعادة كتابته وإخراجه في الشكل النهائي الذي وجده الجمهور، هو الذي يرى أن علاقته بأم كلثوم علاقة روحانية غريبة باعتباره من عشاق فنها، لكن ما دفعه فعلاً لكتابة هذا العمل هو إسقاط الأسطورة التي تلف “كوكب الشرق”، وإعادة بعض من الإنسانية للشخصية التي منع عنها الإفراط في الحب والتقديس من عشاقها كتابة سيرة لـ”سومة” الإنسانة بكل تناقضاتها، وانكساراتها وضعفها كما قوتها ولحظات هيامها.
“حانة الست”، وإن لم تكن من التجارب الرائدة في الكتابة الروائية، فإن ما يميزها هو إعادة بعض المعلومات غير المعروفة، أو “التي تطمس عمداً ولست أدري لماذا” كما يقول محمد بركة عن حياة سيدة الغناء العربي.
السرد الذي يأتي بصوت “الست” يتوقف عند العلاقة المتشنجة التي ربطتها مع أخيها “الشيخ خالد البلتاجي”، والذي كاد يتسبب لمرات في توقيف مسيرتها الفنية بسبب الغيرة الشديدة بين الأخوين، والتبجيل الذي كان يحظى به ذكر العائلة الذي لا تفرقه عنها سنوات كثيرة على حسابها هي التي اعتبرها والدها عالة عليه، قبل أن تصبح الدجاجة التي تبيض له ذهباً.
يتخيل بركة حوارات بين الشخوص التي عمرت حياة السيدة، يتصور تفاصيل حياتهم اليومية، كيف كان “إبراهيم البلتاجي” يدور على الموالد لينشد أغانٍ دينية بغرض جمع ملاليم إضافية تدفع عنه حالة الفاقة الشديدة ولو قليلا، أو لجوء أم كلثوم وتبجيلها لكل من هم في مكانة أرفع منها انطلاقا من العلاقة القوية التي ربطتها بابنة العمدة والتي سيتدخل والدها أكثر من مرة لصالح سومة، حتى تكمل مسيرتها الغنائية، ويكف البلاء الذي لحقها من أعمامها والذين اعتبروا غناءها إساءة في حقهم، إلى الاستقواء بالريس عبد الناصر شخصياً للانتقام من زوجها الذي عنفها بعد أن أخرجها عنوة من بروفة مع الفرقة داخل فيلتها.
عمل بركة يحكي بالموازاة مع حياة الست تاريخ مصر السياسي والفني، وكيف استطاعت صاحبة الصوت اللغز أن تعبر كل تلك الحقب على اختلافها وتناقضاتها، هي التي وجدت نفسها في مرمى الاتهام من صحفي ناشئ يدعى سيد قطب، كتب مقالا بعد نجاح ثورة “الضباط الأحرار” وإسقاط الملكية مطالباً بمنع أغانيها باعتبارها من أبرز وجوه العصر البائد، بل أنها عرفت حظوة وتبجيلا من العائلة الملكية لم يعرفه أحد من خارجها.
من النقاط التي يعيد كاتب “حانة الست” تسليط الضوء عليها هو حالة المنافسة غير الشريفة بين كثير من فناني ذلك العصر، وخصوصاً بين أم كلثوم وعبد الوهاب التي انتهت نسبياً بلحن “إنت عمري” الخالد، ولكن سباق محموم قد يعيد إلى الأذهان حالة الانفتاح الفكرية النسبية التي ميزت تلك المرحلة من خلال سعي الثنائي نحو تلحين القرآن، والذي حسمته “سومة” من خلال التحايل وتحوير كلام بعض الآيات لتغنيها غير أن المشروع كان لعبد الوهاب وظل حبيس الأدراج لعقود طويلة.
يشتكي محمد بركة من الملاحقات التي تطاله بسبب جرأته في تناول سيرة السيدة، ويقول أنه قد كان مستعداً لذلك قبل أن يبدأ حتى في مشروعه، ولكنه ظلَّ متخوفاً ولا يزال كذلك خصوصاً في ضوء البلاغات التي تطاله، والتي تطالب بمنع كتابه كونه يخوض في سيرة سيدة مصر الأولى العابرة للأزمنة، بل وصل الأمر إلى أن منعت الرقابة ظهوره في أحد البرامج التلفزيونية الشهيرة ساعات قليلة قبل موعد التصوير، لحساسية موضوع كتابه، ويرى أنه لا يقدم جديداً، فكل المعلومات التي استخدمها معروفة وكانت تقصها جرائد وتفرد حولها حوارات، لكن شيئاً ما حدث وفرض أسطرة حياة أم كلثوم، على الرغم من أنه اكتفى بالإشارة دون خوض كبير في مسألة ميولات الست الجنسية مثلا، والتي تعود بقوة في السنوات الأخيرة مع صعود النقاش حول الحريات الجنسية والجندرية في حياة الفنانة المعروفة بــ”الست”، وكأنها المرأة الوحيدة في العالم هي التي تجرأت اسمهان، الأميرة ذات العيون الحزينة، وشتمتها بأن شبهتها بالرجال.
تعتبر تجربة بركة تجربة جيدة وموفقة في كتابة سيرة تخييلية بعيدة عن التوثيق لأحد رموز الفن في العصر الحديث، خصوصاً في العالم العربي حيث يتراجع الكتاب لصالح الوسائط الجديدة والتقليدية، والتي لا شكل قد لعبت دوراً كبيراً في ترسيخ سرديات كثيرة، على رأسها خلق الأسطورة كما حدث لسيدة الطرب العربي مع المسلسل الذي حمل اسمها، وطبع في الأذهان صورة مثالية عنها، خصوصاً وأن من لعبت دورها قد برعت في الأمر.
لكن وبالعودة إلى كتاب “برونر” فإلى أي مدى يمكن لمحاولات فنية وفكرية التأثير في مثالية الصورة التي نملكها عن شخصيات شهيرة تركت بصمتها في التاريخ دون أن نشوه إرثها، وكيف نحمي إرث أم كلثوم الفني العظيم، ونحكي حياتها كإنسانة مثلنا، دون أن نقع في فخاخ “الغوغاء العارفة”، وأن ننفتح دون أن نسيء؟.