محمد برو – الناس نيوز :
قراءة في كتاب : اختلف الكثيرون في تاريخ حبة البن الخضراء، ومن أول من شربها، لكنهم يتفقون جميعاً على مدى روعتها، وسحر مذاقها وغنى مجالسها.
لم يكن يخطر ببال تلك الشعوب الأثيوبية البسيطة يومها، أنَّ هذه الحبوب التي عرفوها، ودأبوا على مضغها خضراء مخلوطة بالزبدة، سيعلو شأنها وتغدو أشهر مشروب يشرب على امتداد العالم، وأن الأساطيل ستجوب البحار في مغامرات خطرة، بحثاً عنها وعن سبل تأمينها لبلاد بعيدة، لا تطيب أماسيها إلّا بشرب تلك القهوة ورائحتها الزكية.
وكما استطاع الهندي الأحمر أن يوصل تبغه المحبب إلى معظم بيوت هذا الكوكب، فقد استطاع الأفريقيون دخول جميع البيوت بحبة البن الصغيرة، التي لم تترك بيتا إلا ودخلته دون استئذان.
يقودنا الكاتب الاسكوتلندي “غوردون كير” مؤلف كتاب “حبوب البن الساحرة” في رحلة طويلة ترصد ولادة مشروب البن، وتطور فضاءات المقاهي في أصقاع الأرض، وذلك الأثر العميق والدور الذي لعبته في تشكيل الثورات والتغيرات الاجتماعية، وولادة التيارات الفكرية والفنية، وتطور انتقالها من مشروب قبلي بدائي إلى مشروب نخبوي عالمي، واستقراره اليوم كأحد أهم المشروبات التي تدار في جميع أزقة وبيوت هذا العالم الواسع، لا ينافسه في ذلك إلا مشروب الشاي.
صحيح أن رحلة حبة البن بدأت في القرن التاسع من أثيوبيا “الحبشة”، لكن ما لبثت أن غزت بلاد العرب والشرق الأوسط، وأوروبا وسائر البلدان، وكان لها أصداء متضاربة، فتارةً كانت الضيف الأجمل الذي يحتفى بسواده ورائحته العبقة، ومرة أخرى تقع فريسة الصراعات السياسية والفقهية، فتغدو محرمة ومجرَّمة.
لقد أصبحت المقاهي في لندن وفي المستعمرات الأمريكية مراكز لنشوء الأعمال الكبيرة، فقد تأسست شركة “لويدز أوف لندن” في مقهى “إدوارد لويدز”، وتأسس “بنك أوف نيويورك” في مقهى “ميرشانتس” وتحولت العديد من المقاهي إلى مقرات للمزادات التجارية، ومراكز لبيع الأسهم وبوليصات التأمين، كما كانت مراز للنميمة السياسية وحياكة المؤامرات.
في فرنسا شهدت المقاهي بواكير التخطيط للثورة هناك، على يد رجال جلسوا يحتسون فناجين القهوة ويصعِّدون أفكارهم كما تتصعد روائح البن العبقة هناك، وفي أمريكا تعتبر المقاهي في القرن الثامن عشر بؤر المعارضة، وفي لندن كان الراديكاليون ينسجون مؤامراتهم في المقاهي، الأمر الذي حمل تشارلز الثاني إلى إصدار قرار بإغلاق المقاهي كافة.
كتب عالم الآثار الفرنسي ومترجم ألف ليلة وليلة “أنطوان غالان” في القرن السابع عشر: “القهوة تجمع الرجال في اتحاد أكثر كمالاً، حيث تجري النقاشات بشكلٍ أكثر وضوحاً، في وقت لا يكون العقل فيه مشوشاً بالأبخرة والدخان، وبالتالي لا تنسى بسهولة، كما يحدث غالباً عندما تجري النقاشات أثناء شرب الكحول”.
وصلت القهوة إلى إسطنبول عام”1517″ بعد أن جلبها السلطان “سليم الأول من مصر، وبعدها بـ ثلاثة عشر عاما وصلت دمشق، وكان أول المالكين للمقاهي في إسطنبول عام “1554” دمشقي يدعى “شمسي” وحلبي يدعى “حكيم” لكن ما لبث الحظر أن نال من المقاهي عام “1570” بزعم المشايخ آن ذاك أن المقاهي تغصُّ بالرواد بينما بيوت الله خاوية.
كل هذا لم يمنع الناس من المثابرة على شرب القهوة، إلى أن أمر الصدر الأعظم كوبرولو محمد باشا في عهد السلطان مراد الرابع “بإغلاق المقاهي مرتع الفتن، وتشديد العقوبة على المخالفين بالضرب المبرح، ولمن يكرر المخالفة أن يوضع في حقيبة جلدية محكمة الإغلاق فيرمى في البوسفور.
كذلك عندما وصلت القهوة إلى روما أحدثت لغطاً عارماً في مجمع قساوسة الروم الكاثوليك، فعرضوا حظرها على البابا كليمنت الثامن “1535-1605″ لكنه أصرَّ على تذوقها أولاً، بعد أن سمع عنها ما فتنه، وما أن شم رائحتها الزكية وارتشف منها رشفة حتى صرخ قائلاً” يا إلهي! شراب هذا الشيطان لذيذ جداً، إلى درجة أنه سيكون مؤسفاً السماح للكفار حصراً باستخدامه، علينا أن نخدع الشيطان بتعميده، وجعله شراباً مسيحياً حقاً”.
في الثلث الأخير من القرن العشرين ظهرت أشهر سلسلة عالمية للبن “ستاربكس” من مدينة سياتل الأمريكية وبالتحديد عام “1971” حيث أسس أستاذان وهما كاتبا تلك السلسلة، التي أخذت بالانتشار بشكل لم يكن لأحد أن يتخيله، ويقدَّر عد فروعها اليوم حول العالم ب 16226فرع منهم 11434 فرع في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها، وتعد تركيا صاحبة أكبر عدد لفروعها في الشرق الأوسط حيث بلغ عدد فروعها 300 فرع وهي إلى ذلك باتساع مضطرد، ناهيك عن أسماء أخرى إيطالية وهولندية وغيرها كثير، سطعت في هذا الفضاء.
واليوم تعد آلات تحضير القهوة التي لا تتطلب أكثر من لمسة إصبع، لينسكب لك كوب جميل من ذلك البن الذي عبر القارات وتخطى الحدود ليصل إليك، عنصراً أساسياً في معظم مكاتب الشركات والمطاعم والمقاهي وحتى محطات الوقود، ناهيك عن المطابخ المنزلية والصالونات التي باتت آلات تحضير الاسبريسو والنسبريسو مكوناً أساسيا يدل على ذوق صاحب هذا المنزل وترفه.
لا يغيب عن مؤلف الكتاب ولا عن تاريخ حبة البن، تلك المسيرة الاستعمارية التي لعبت بها الشعوب المستعبدة دوراً مهماً في ازدهار هذه التجارة والصناعة، شأنها في ذلك شأن معظم حركة التطور التي كانت في القرنين السابع عشر والثامن عشر.
وتتصدر فنلندا قائمة الدول الأعلى استهلاكاً للبن في العالم، حيث يبلغ معدل استهلاك الفرد سنوياً 12كغ، تليها النروج بمعدل 10 كغ سنوياً، ثم آيسلندا والدانيمارك بمعدل 9 كغ، تليها هولندا بمعدل 8 كغ سنويا، وفي نهاية العشر الأوائل تكتفي كندا بمعدل استهلاك 6 كغ سنوياً للفرد الواحد.
يذكرنا كتاب ” حبوب البن الساحرة ” بقول لشاعرنا الكبير الراحل محمود درويش يحب احتساء فنجان قهوته الصباحي بصمت، ويرى أنَّ “القهوة الأولى يفسدها الكلام لأنها عذراء الصباح الصامت”.
وهل ننسى فيروز كل صباح مع قهوة الصباح ، بل يكاد الصباح يقول صباحكم حبوب البن الساحرة …