محمد برو – الناس نيوز ::
“أول قاعدةٍ في السياسة: لا تغز أفغانستان أبداً” بهذه الكلمات أوصى رئيس الوزراء البريطاني “هارولد ماكميلان خليفته “أليك دوغلاس هيوم”، لكنَّ العنجهية الأمريكية حالت دون فهم الرئيس بوش الابن لهذه الحكمة.
هي لحظة تاريخية فارقة ترسف في غرائبية فريدة، حيث يقف جندي أمريكي، وإلى جواره مسلح طالباني يده اليمنى تمسك بزناد بندقيته، دون أن يطلقها نحو عدوه الأمريكي الذي احتل البلاد وقتل واعتقل، بل يساعده في تنظيم خروج المغادرين عبر مطار كابول، وكأنها سنّة من سنن التاريخ، حيث يتصافح الغازي المغادر مع المغزي المنتصر.
تنقلنا عين الصحافي، عبر التاريخ الوعر لتلك الأرض، منذ الاسكندر المقدوني مروراً بخروج الجيش البريطاني مهزوماً 1919 وانكسار السوفييتي الغازي 1989، خطاب بوش الابن متوعداً واثقاً في تشرين الأول/أكتوبر 2001 قبيل الغزو الأمريكي لأفغانستان: “لن نتردد ولن نتعثر ولن نتعب ولن نفشل”، لكن هل استطاعت اميركا تحقيق تلك الوعود والامنيات ؟ .
المشهد ينكشف عن قلقٍ واضطراب للجنود الأمريكيين، الذين يغادرون على عجلٍ دون أن يحصدوا إلا الهزيمة ( هل كان هدفهم إعمار البلد ؟ ) ، ومسلحو طالبان يتسلمون مقاليد الأمور من عدوهم، والعالم مندهش من تلك التحولات والقرارات التي بدت لأول وهلة أنها ارتجال المكرهين.

إنك لن تعرف الخط الذي صعد عبره مقاتلو طالبان، وانكسرت عبره الجيوش البريطانية والروسية والأمريكية إلا بمعرفةٍ بانوراميةٍ، عن طبيعة أفغانستان الغنية والوعرة، بحيث يستحيل على الغازي السيطرة عليها دون تقديم الخسائر، التي تجعل من المنتصر ظاهرياً خاسراً حقيقياً لفداحة ما قدم من ضحايا، ويكفي أن نعلم أنَّ شطراً من أراضيها الواسعة يقع عبر جبال “الهندوكوش” والتي كانت تعرف قديماً باسم “باروبانسادا، أي الجبل الذي يعجز النسر عن التحليق فوقه”، هذه السلسلة التي تمتد عبر ستمئة كيلومتر طولاً وتسعمئة كيلومتر عرضاً، كذلك الإحاطة بتحولاتها عبر التاريخ، من حاضرة مدنية غنية في تنوعها البشري وفي عمرانها الذي كان مضرب الأمثال في المعرفة والعلم والجمال، وأن شخصيتين تاريخيتين كان لهما دوراً كبيراً في إزاحة أفغانستان عن مكانتها العالمية، هما الإمبراطور المغولي “جنكيز خان” الذي دمرها وقتل أهلها وقارب على إفنائهم 1219-1221، والرحالة الإيطالي كريستوف كولومبوس الذي غير طريق القوافل والسفن التجارية بعد اكتشافه للقارة الأمريكية 1492.
ثم يعرض الكتاب بتفصيلٍ وافٍ لدور الملا عمر مؤسس حركة طالبان، ومتانته الشخصية في تشكيل مقاتليه، وجعلهم قوةً تقف في وجه الغزو السوفييتي وتدحره، كذلك لقدرته التي كشفت هشاشة الاستخبارات الأمريكية في أفغانستان حين استطاع الاختفاء في القرى والبلدات الأفغانية على مقربة من القواعد الأمريكية، دون أن يصلوا إليه طيلة اثنتا عشرة سنة، واستطاع أن يدير مقاتليه من خلال رسائل صوتية عبر الكاسيت أو مكتوبة بخط اليد أو مشافهة عبر ناقل الرسائل، وبقي مستمراً في هذا حتى بعد وفاته بعامين، فقد أخفى قادته نبأ وفاته 2013، ولم يتم الإعلان عنها إلا عام 2015.
هذا الكتاب الذي خرج على عجلٍ بعيد خروج القوات الأمريكية من أفغانستان، يكشف عن متابعاتٍ طويلةٍ وقديمةٍ في الشأن الأفغاني، كما يكشف عن ذلك الجهد الكبير الذي بذله الصحفي المتمرس في تقصي الحكايات والروايات، ونفي ما ضعف سنده أو تعذر التحقق من دقته، كما انه يغوص بالتفاصيل الشخصية لبعض من التقى بهم، فيجمعون إلى حديثهم عن الحاضر وقائع غاية في الإدهاش والإمتاع، عن سنوات وأيام أمضوها في مقارعة أعتى جيش في العالم.
هذا هو محمد أعظم الشاب الطالباني الذي يطوف بدراجته ليرصد كل تفصيل في كابول، ويتواصل مع قياداته، ليضعهم في التفاصيل بعد أن تلقى مكالمته المهمة “يا محمد أنت ورفاقك مكلفون بنقل المجاهدين إلى النقاط الحساسة لحراستها، هم لا يعرفون المدينة، كثير منهم لم يدخل المدينة قط، لم نكن نريد دخول كابول لكن بعض العصابات بدأت في أعمال النهب، حين علمت بهروب الرئيس وتفكك أجهزة الشرطة والجيش، مهمتنا تأمين الناس”، يحدثنا عن مواقف ملحمية كان هو الناجي الوحيد فيها بعد أن قتلت القوات الأمريكية رفاقه وأسالت الأسيد فوق وجوههم لتشويه معالمها.
“شعر المرأة طويل، لكنّ لسانها أطول” مثل بشتوني.
معلوم كم عانت النساء الأفغانيات، من تهميش وحجب عن المشاركة بالحياة العامة، هذه الصورة المرسخة كانت تشعل المخاوف المشروعة لدى الصحفيات، اللائي تم إيقافهن عن العمل في مؤسساتهن، فور دخول مقاتلي طالبان إلى كابول، هذا ما تحدثت عنه الصحافية الهزارية “صديقة فرامرز”، ومع سيل التصريحات المطمئنة التي كانت تعد بإتاحة العمل للنساء، وعدم التمييز بينهن وبين أقرانهن من الرجال، إلا أن الثقة الغائبة وذكرى عنف الممارسات السالفة، حالت بينهن وبين تصديق تلك الوعود، لم يكن المقاتلون كلهم علماء أو طالبي علم، بل معظمهم من الناس العاديين، وستجد الكثيرين منهم يدخنون وبعضهم يتعاطى الحشيش، لكنهم مجمعون على مواجهة الغزاة والدفاع عن البلاد.
“خلاصة التاريخ، أن الشعوب والحكومات لم تتعلم شيئاً قط من التاريخ” هيغل.
يحرص الأفغان كعادتهم القديمة على صفع المحتلين حين مغادرتهم، وهذا ما حصل حين تقدم شاب أفغاني يرتدي حزاماً ناسفاً وفجر نفسه بين مجموعة جنود أمريكيين كانوا على أهبة الرحيل، سقط 18 جندياً أمريكياً، وقتل ما يزيد عن مئة مواطن أفغاني، وتم اتهام تنظيم داعش بوقوفه وراء هذا التفجير العبثي البائس.

في اليوم الأخير وخلال تغطيتهم لموجة انفجارات وسيل منهمر من الرصاص، تبين فيما بعد أنه رصاص احتفال بخروج آخر جندي أمريكي، يتذكر مسؤول فريق الجزيرة أمير عباد تغطيته للحرب في سوريا، لذلك كانت تغطيته لما يحصل اليوم في أفغانستان أشبه بنزهةٍ، قياساً لفداحة القتل والتدمير في سوريا.
الكتاب رغم رشاقة حجمه، يكثف التاريخ والحاضر الأفغاني، ويجذبنا عبر صفحاته لاهثين بين مداهمات الجنود الأمريكيين، ومقاومة المقاتلين الأفغان، وأزيز الرصاص الملعلع هنا وهناك، ومئات الضحايا الأفغان الذين قتلوا وتناثرت أشلاؤهم، ويدخلنا في معاناة المجموعات الصحفية، التي تغطي تلك الأحداث العظيمة، على أرصفة مرافئ الموت وشواطئ النيران، بينما نتلقاها نحن المتابعين في حجراتنا الدافئة بعيداً عن أي خطر.
ولعل ذلك يشي بشيء من المقاربة لمن يقرأ رواية الحدقي “الجاحظ” للكاتب أحمد فال الدين، وما تحويه من لغة عالية تمتح من جزالة لغة الصحراء الموريتانية، يلمس مقدار الجهد الذي بذله ليجعل من لغة هذا الكتاب لغةً مسالةً سلسة، تصل للقارئ دون عناء، كما يكشف مقدار التحشيد المعرفي واسناده المتقن، ليكون أحد المراجع التي تحكي تلك الأحداث والتحولات العظيمة، إنه يذكرني بكتاب جون ريد “عشرة أيام هزت العالم”.