أحمد برقاوي.
كان المثقف العربي المولع بالحداثة الغربية يتساءل، ومازال يتساءل: كيف نستطيع أن نكون غرباً بالمعنى الذي تنطوي عليه الحداثة، عقلانية، عَلمانية، علمية، حرية، ديمقراطية.
إنه لسؤال ناتج عن الإغراء بقوة الغرب، ونزعة نحو إشادة عالم من الحداثة. عند هذا الحد يبقى السؤال مشروعاً.
لكن السؤال الزائف الذي لمع في بعض الأذهان العربية هو: كيف السبيل لأن يقوم الغرب نفسه في المساعدة على تحقيق هذه الرغبة.
ما هو الغرب؟ يستطيع الأوربي، والأمريكي والأسترالي والكندي، أوربيون، أن يعلن عن نفسه بأنه المختلف عن الآخر غير الأوربي، بل هو سيد العالم بلا منازع.
فمنذ عصر الاكتشافات وحتى الآن، مروراً بمرحلة الاستعمار المباشر وغير المباشر فإن الأوربي ينظر إلى العالم المختلف عنه موضوعاً فقط وليس ذاتاً.
وبالتالي فإن حدود الحداثة والديمقراطية كإحدى سماتها الأصيلة هو الغرب. فالحداثة التي أنجزها الأوربي هي نهاية التاريخ كما أشار فوكوياما، أما العوالم الأخرى فهي مازالت غارقة في الوحل التاريخي من الصراعات الإثنية والقومية والطبقية والدينية الخ.
بهذا المعنى يمكن القول بكل اطمئنان بأن الأوربي بالمعنى الشامل، لا يرى حدود الديمقراطية إلا بلاده من واشنطن إلى أمستردام.
لقد عزز الاستعمار النزعة العنصرية الغربية المعلنة والمستترة تجاه الشعوب غير الأوربية، بل هي نزعة نمت في مرحلة ما قبل الاستعمار.
حين سئل البرتغالي التي كان يعاقب أهل الخليج العربي بقطع الآذان والأنوف: هل تمارسون هذه العقوبة في بلادكم؟ أجاب: لا، لأن قوانيننا لا تسري على البلدان التي نحتلها.
لقد حدد الوعي الاستعماري الغربي بالآخر حدود وعيه بالديمقراطية: حدود الديمقراطية هي أوربا واستطالتها الأوربية في القارتين الأمريكية والأسترالية.
حسبنا أن ندلل على هذا الوعي العنصري في علاقة الاستعمارين البريطاني والفرنسي ببلاد الشام.
وليس الأمر وقفاً على تقسيم منطقة لم تشهد قسمة في تاريخها، بل في سياسة مستمرة حتى الآن من قبل الوريث الأمريكي.
الصهيونية حركة عنصرية بلا جدال، ما الذي حمل الديمقراطي البريطاني أن يؤسس دولة عنصرية في فلسطين دون الاكتراث بحق الشعب الذي يعيش على أرضه دون انقطاع منذ أزيد من ثلاثة آلاف عام؟
والديمقراطية والحق لا ينفصلان.
حين ثار الفلسطيني عام 1929 ضد الاستعمار البريطاني وفتح باب الهجرة الصهيونية إلى فلسطين (ثورة البراق).
حكم البريطاني بالإعدام على ستة وعشرين فلسطينياً. خفف حكم الإعدام إلى المؤبد على ثلاثة وعشرين، وقام بإعدام محمد جمجوم المثقف الفلسطيني الذي كان فاعلاً في المظاهرات فقط.
وفؤاد حجازي خريج الجامعة الأمريكية في بيروت، ولم يبلغ من العمر إلا خمسة وعشرين عاماً.
وعطا الزير قائد مظاهرات الخليل.
الفرنسيون أصحاب الإخاء والمحبة والمساواة وإعلان حقوق الإنسان قصفوا البرلمان السوري لأن حامية البرلمان رفضت التحية لرفع العلم الفرنسي. وحدث ولا حرج عن مجازر فرنسا المروعة في الجزائر.
طبعاً هذا سلوك لا يسلكه الفرنسي والبريطاني في حدود دولتيهما.
حين مات أسوأ ديكتاتور في التاريخ العربي المعاصر، تقاطر الغربي والأمريكي إلى دمشق بحجة تقديم العزاء، وتأكيد الوريث الابن لسلطته.
وحين استخدم الوريث الأسلحة الكيميائية مثلت أمريكا وبريطانيا دور الاحتجاج، ولم تحركا ساكناً.
وها هو الغرب ينظر إلى تراجيديا الشعب السوري بدم بارد.
في تأييد السياسة العنصرية الصهيونية لا يتوانى الغربي اعتبار بأن هذه السياسية تقع في حقل حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها.
والأمثلة أكثر من أن تُحصى على فكرتنا بأن الغرب لا يرى الديمقراطية إلى في حدوده.
كل تعويل على الغرب في الخلاص حماقة تاريخية، تماماً كتعويل الأسدية على الخلاص الروسي الذي مازال في مرحلة حكم الدكتاتورية القديمة.
إن الوعي الذاتي هو الأساس في الخلاص، أما التعويل على من كان أحد أسباب الخراب العربي فهو ضرب من الغباء التاريخ.