رفيق قوشحة – الناس نيوز ::
دون أدنى شك يمكن القول إن عملية إحراق المصحف على الملأ في السويد هو عمل مستفز وأحمق، وينم عن كثير من العدوانية والعنصرية الكريهة ضد المسلمين. هذه حقيقة.
الحقيقة الثانية أن هذا الفعل لا يعتبر جريمة يعاقب عليها القانون في مملكة السويد، وعدد من الدول الأخرى في أوروبا، ويتم إدراجه تحت عنوان حرية التعبير.
مسألة حرية الفرد والمجموعات في التعبير هي مسألة شبه مقدسة في الدستور وبشكل مبالغ فيه أحياناً في ( فرنسا، السويد، فنلندا، بلجيكا، هولندا، والدانمارك) وهذا ما يجعل من معاقبة شخص يحرق كتاباً يخص مجموعة دينية أو ثقافية هو عمل مرفوض وغير لائق، وينم عن تعصب وعدوانية خرقاء، ولكنه ليس بجريمة أبدا بحكم القانون، ومن أجل ذلك اعتذرت الحكومة السويدية عن تصرف الشاب العراقي السويدي الذي أحرق المصحف أمام المسجد في ستوكهولم، ولكن هذه الحكومة لم تعاقبه ولم توجه إليه أي تهمة!
هذا ما جرى
يمكننا أن نضيف أفكارنا سواء كنا مؤمنين بالكتب المقدسة أو غير مؤمنين، ومنها أنه يتبادر إلى الذهن سؤال: لماذا لا يرد المسلمون بالطريقة نفسها، ويقوم أحد الشباب المسلمين بإحراق الإنجيل في ساحة أخرى على باب أكبر كنيسة في ستوكهولم أو باريس أو أمستردام مثلاً؟
ما لا يعرفه أهل الغرب أنه لا يوجد مسلم واحد مهما بلغت به الحماقة والتعصب والجنون يمكن أن يتجرأ ويقوم بهذا الفعل المشين، لسبب بسيط لا يعرفه الغرب كله وهو أن المسلم، كل مسلم يعتبر الإيمان بالكتب المقدسة، الإنجيل والتوراة جزء من إيمانه الإسلامي، لأن القاعدة الأساسية للإيمان الإسلامي هي: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر خيره وشره. يعني أن الإيمان بالإنجيل هو جزء من الإيمان الإسلامي وكذلك التوراة، ولعل هذا أعظم ما ورد وتم التأكيد عليه في الدين الإسلامي منذ صدر الإسلام.
بناء على هذا الإيمان لا يمكن للمسلم إن يحارب المسيحي بإحراق الإنجيل مما يجعله ممسوكاً من اليد التي توجعه ويصبح عاجزاً عن الرد بالطريقة نفسها.
هل سمعنا أن شاباً مسلماً في السعودية أو البحرين أو مصر أو العراق أو سوريا أو الاردن أو فلسطين أو أفغانستان (بما فيها طالبان الأكثر تعصباً) أو إندونيسيا أو ماليزيا أو ألبانيا في وسط أوربا أو في أوروبا نفسها من المهاجرين قد تجرأ على هكذا فعل؟
مستحيل، ولا يمكن أن يحدث لأن المسلم يؤمن بالإنجيل كما يؤمن بالقرآن، ولكنه لا يتبع الإنجيل ويتبع القرآن، وكذلك يؤمن بالتوراة العهد القديم كما يؤمن بالقرآن نفسه، وهذا من جوهر إيمانه الذي يساوي إيمانه بالله نفسه.
ثمة معضلة هنا.
كيف يرد المسلم على هذه العدوانية؟
لا يستطيع أن يحرق العهد الجديد، فيلجأ إلى العنف ضد المجتمع المسيحي وربما الدولة نفسها، لقناعة لديه أن الدولة الأوروبية تحمي من يحرق القرآن، فبالتالي هي متضامنة وشريكة في الجريمة ويجب معاقبتها بالعنف.
هذا ما يحدث وسوف يحدث إذا استمرت هذه الانتهاكات للمشاعر الدينية للمسلمين عبر العالم، وهذا ليس من مصلحة أحد، ولا يجب الاستهانة به وما يمكن أن ينتج عنه من عنف وعنف مضاد.
في المجتمع الأوروبي يبدو الشاب الذي يحرق المصحف على حق لأنه يمارس حرية التعبير، والحكومة على حق لأنها تسمح وتحمي من يمارس حرية التعبير، والمسلمون على حق في التعبير عن استيائهم وانزعاجهم من هذه الممارسة المستفزة والعدوانية، بالمحصلة ولكنهم يصبحون على غير حق عندما يلجؤون إلى العنف كنوع من الرد والتعبير عن استيائهم، فيخالفون القانون وتتم محاسبتهم.
نحن أمام معضلة!
الوصول إلى حلول في هذه المعضلة يحتاج إلى سعة أفق واسعة جداً من الحكومات الأوروبية، والعمل على تعديل القوانين بما يمنع متطرفين وحمقى من الإساءة إلى مجموعات كبيرة من البشر على أساس قاعدة حرية التعبير المصانة في الدستور، لأن حرية البشر ليست أهم من البشر أنفسهم، وبالتالي الخروج من التطبيق المطلق للقاعدة الدستورية إلى تطبيق نسبي يراعي الظروف الاجتماعية والسياسية والفكرية المتغيرة في المجتمعات عبر التاريخ، إذ لا يعقل أن نكون حريصين على مفهوم حرية التعبير المقدسة أكثر من حرصنا على البشر الذين من أجلهم تم وضع هذا المفهوم وتطبيقاته الدستورية والقانونية.
الإخلاص للمفاهيم النبيلة على حساب الواقع المتغير يقود في النهاية إلى الجمود والسلفية المتحجرة. لأن النظرية مهما كانت صحيحة وهي هنا المفاهيم الدستورية تبقى رمادية في حين أن الألوان الحقيقية للحياة هي في الواقع المعاش الذي يجب وبالضرورة أن تتكيف المفاهيم الدستورية والنظريات الحقوقية معه وليس العكس.
وللحديث صلات، وكثير من الصلاة.