د. نائل جرجس – الناس نيوز ::
ترتفع أصوات العديد من الكنائس المشرقية وبعض رجالات دينها للمطالبة بالحرية الدينية للمسيحيين في المشرق، غير أنّ نفس هذه الكنائس لا تحترم حرية المعتقد في إطار تطبيق تشريعاتها في مجال الأحوال الشخصية على أتباعها من المسيحيين.
هذا ويبدأ انتهاك الحق في حرية المعتقد لجميع قاطني منطقة المشرق من خلال فرض الانتماء الديني عليهم منذ الولادة، ويتبع ذلك فرض أحوال شخصية دينية/طائفية ونظام تعليمي ديني وفقاً لتصنيفات دول المشرق، وليس دائما تبعاً للمعتقد الديني للمواطنين الذين يستحيل عليهم تغيير دينهم إلى غير الإسلام، وهو ما قد يعرض المسجلين كمسلمين لتهمة الردة الدينية.
كما لا تعترف دول المشرق بغير الأديان السماوية، اليهودية والمسيحية والإسلامية، وبالتالي يُفرض على أتباع الأقليات الدينية المحظورة وعلى غير المؤمنين بأن يتبعوا في أوراقهم الثبوتية لدين معترف به بصرف النظر عن معتقداتهم الدينية.
تتعدد تشريعات الأحوال الشخصية المُطبَّقة في دول المشرق تبعاً للانتماء الديني وحتى الطائفي للمواطنين، حيث يُترك في الغالب الحرية لكنائس المشرق بإعمال شرائعهم الكنسية في مجال الأحوال الشخصية، في حين يحتكم المسلمون للتشريعات المستقاة من الشريعة الإسلامية.
تتنوع أيضاً المحاكم الدينية التي تطبُّق هذه التشريعات، والتي من بينها المحاكم الروحية للمسيحيين والشرعية للمسلمين والمذهبية للدروز، وحتى الجعفرية للطائفة الشيعية في بعض بلدان المشرق.
وبهذا تبقى بارزة الصبغة الدينية للأحوال الشخصية، وهي ذات هيمنة إسلامية في جميع بلدان المشرق باستثناء لبنان الذي يسعى إلى إقامة نوع من المساواة والحيادية بين أتباع الطوائف المختلفة، في حين يتم في بلدان مجاورة استبعاد بعض بنود قوانين الأحوال الشخصية المسيحية في حال تعارضها مع قوانين الأحوال الشخصية الإسلامية العامة، كما في الولاية والوصاية والقوامة التي تتبع التفسيرات التقليدية للشريعة الإسلامية.
كما يتم استبعاد هذه البنود المسيحية وحتى اختصاص المحاكم غير الشرعية في حال كون أحد أطراف الدعوى مسلماً، حيث تحكم المحاكم الشرعية الإسلامية في الغالب لصالح هذا الطرف المسلم (أو المتأسلم)، بصرف النظر عن مصلحة الطفل، كما في قضايا الحضانة، وفي ظلّ انتهاك لمبادئ المساواة وحرية المعتقد.
تختلف الطوائف المسيحية في المشرق العربي بشأن مصادر تشريعاتها في مجال الأحوال الشخصية، حيث تتنوع هذه التشريعات تبعاً للطوائف من أرثوذكسية وكاثوليكية وبروتستانتية، وأحياناً تبعاً لاختلاف الملل داخل نفس هذه الطوائف، أو حتى من دولة مشرقية إلى أخرى.
يُطبَّق قانون الأحوال الشخصية للسريان الأرثوذكس، الذي أقرّه “المجمع الأنطاكي المقدس” بتاريخ 10 سبتمبر/أيلول 2003، على كافة الاشخاص التابعين للكنيسة السريانية الأرثوذكسية، وذلك كما تنصّ مادته الثانية. ينتهك هذا القانون حرية المعتقد، فتُسقط مادته 64 الحضانة عن الأم في حال “توفي الزوج وكانت هي في الأصل غير سريانية أرثوذكسية”، أو “إذا أقدمت على تعليم الطفل المحضون تعاليم مغايرة لإيمان وطقوس الكنيسة السريانية الأرثوذكسية”.
أمّا قانون الأحوال الشخصية للمحاكم المذهبية الإنجيلية في سوريا ولبنان، فينصّ في مادته 84 على نوعين من التمييز، أولهما بين المرأة والرجل حيث يكون لأقارب الأب أفضلية في الحضانة، وثانيهما عند اشتراط انتماء الحاضن إلى الدين المسيحي، فقد جاءَ فيها: “إذا لم تتوفر في الأم شروط الحضانة المذكورة في المادة 83 من هذا القانون صارت حضانة الولد للأب العاقل، ثم لأم أبيه المسيحية العاقلة ثم للأقرب فالأقرب من أقرباء الأب ثم من أقرباء الأم المسيحيين العاقلين، وإن لم يوجد أحد من هؤلاء أو من أولئك فإلى من تعينه المحكمة”.
ونجد في هذا القانون تمييزاً حتى على أساس الانتماء الطائفي، فتنصّ مادته 16 بأّنّ “اعتناق أحد الخطيبين الإنجيلي غير المذهب الإنجيلي أو ديناً آخر” هو سبب يخول أحد الخطيبين فسخ الخطبة. ونصتّ كذلك مادته 40 على أنّ “يفسخ الزواج بطلب أحد الزوجين وبحكم من المحكمة إذا اعتنق الزوج الآخر ديناً غير الدين المسيحي”.
ينتهك بدوره قانون الطوائف الكاثوليكية السوري رقم 31 لعام 2006 الحق في حرية المعتقد، لاسيما في مادته 93 حيث “تُمنعُ الأمُّ من حراسة الأولاد “إذا مرقت من الدين المسيحي أو غيرت مذهبها الكاثوليكي”. كما تُسقط نفس هذه المادة الحضانة عن الأم فيما إذا كانت “ناشزاً أو سيئة السلوك” أو إذا عقدت زواجاً جديداً بعد فسخِ زواجها الأول أو وفاة أبي الصغير.
أمّا الفقرة الثالثة من هذه المادة، وإن كانت تُشير إلى “مصلحة الصغير” عند اختيار الحاضن، فإنّها تصرّ على أن “تضمن دوماً تربيته الكاثوليكية” ليكون فوق كل اعتبار آخر.
كما ينزع هذا القانون السلطة الوالدية عن الأب في انتهاك لمعتقده الديني ولحريته في اختيار التربية الدينية لأطفاله، فتنصّ الفقرة ومن المادة 96 على إسقاطها فيما “إذا كان مرق من الدين المسيحي أو غيّر مذهبه الكاثوليكي”. وبحسب الفقرة د من المادة 97، يمكن حرمان الأب من السلطة الوالدية “إذا كان يهمل تربيةَ أولاده وخصوصاً التربية الدينية الكاثوليكية”.
تركّز هذه القوانين الكنسية أيضاً على ضرورة تبعية الشهود والوكلاء للديانة أو حتى الطائفة المسيحية. فقد اشترطت المادة 3 من قانون الأحوال الشخصية للسريان الأرثوذكس لانعقاد الخطبة حضور كاهن وشاهدين مسيحيين. وتشترط المادة السابعة في كل من الولي والوكيل بأن يكونا من أبناء الكنيسة، “ولا تصح الولاية أو الوكالة للمرأة وإن كانت أم المخطوبة”.
وتتعلق مواد أخرى من هذا القانون بإثبات المهر أو الجهاز العلني أو زنا الزوجة، حيث تفترض دائما انتماء الشهود إلى الدين المسيحي (انظر المواد 46-47-56). تمنع كذلك الزيجات الدينية وحتى الطائفية المختلطة بمقتضى أغلب قوانين الأحوال الكنسية. فلا يوافق الأقباط الأردثوذكس في مصر إلا على الزواج المعقود بين شخصين ينتميان إلى طائفتهم، حيث تنصّ المادة 23 من قانون أحوالهم الشخصية والصادر في العام 1955 على ما يلي: “لا يجوز الزواج في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية إلا بين مسيحيين أقباط أرثوذكس”.
غير أنّه يجدر التذكير بأنّه يتم استبعاد هكذا تشريعات كنسية في حالة الزواج بين الرجل المسلم والمرأة المسيحية الذي تبيحه قوانين الأحوال الشخصية الإسلامية العامة في المشرق، بينما تمنع زواج المسلمة بغير المسلم.
لا يقتصر انتهاك قوانين الأحوال الشخصية الكنسية، كحال نظيرتها لأتباع الطوائف والأديان الأخرى في المشرق، لحرية المعتقد وللمساواة بين المرأة والرجل، إنما تطال حقوق الطفل، لا سيما من خلال إتاحة زيجات القاصرين، كما هي الحال بمقتضى المادة الرابعة من قانون السريان الأرثوذكس المذكور أعلاه. يعرقل تأثير قوانين الأحوال الشخصية الدينية إقامة دول المواطنة التي يتمتع بها جميع الأشخاص بالحرية وبالمساواة بصرف النظر عن الاعتبارات الدينية والطائفية.
في هذا الإطار، لابدّ من إعادة صياغة قوانين الأحوال الشخصية الدينية بما ينسجم مع الصكوك الدولية لحقوق الانسان، بالإضافة إلى تشريع قوانين للزواج المدني تضمن المساواة بين المواطنين ليتم إعمالها على غير الراغبين بإتباع هذه التشريعات الدينية.