هدى سليم محيثاوي – الناس نيوز ::
اللوحة الرئيسة للفنان السوري تمام عزام .
في كتابها (شهرزاد ترحل إلى الغرب) تقول عالمة الاجتماع المغربية فاطمة المرنيسي (1940-2015): “لن يخطر ببالي قط أن أربط مصطلح “الحريم” بشيء مبهج، خاصة أن أصل الكلمة يعود إلى الممنوع، وفي كل الثقافات يُحيل بشدة على العقاب إلى حدٍ يجعلنا لا نربط البتة بينه وبين الفرحة”.
يأتي مصطلح “الحريم” الذي رسخته المرنيسي في كتاباتها، ليشير دائماً إلى العالم المأسور للمرأة، العالم الداخلي المُقيَد، عكس العالم الخارجي المفتوح للرجل، لتبدأ معركتها بتجاوز عتبة هذا الحريم والخروج منه بغرفه العديدة، التي قسمها بعض من تتبعوا كتابات المرنيسي إلى العائلي، الجنسي، الاقتصادي، السياسي والأوروبي.
في غرفةٍ سياسية، لم يكن شهر فبراير/شباط من العام 1951 شهراً عادياً على سيدات مصر، فهذا التاريخ قد نقلهنَ إلى حيث سيجنين ثمار جرأةٍ ودفاعٍ عن حقٍ، لم يكن من السهل انتزاعَه بسهولة في ذلك الوقت.
حق الترشح والانتخاب للمرأة المصرية. حيث قادت درية شفيق والتي شاركت بمسابقة ملكة الجمال وحصلت على مركز الوصيفة، مظاهرةً نسائية مكونة من 1500 فتاة وسيدة، وقمن باقتحام البرلمان المصري في ظاهرةٍ كانت تُعدُ الأولى من نوعها في مصر، وربما في الوطن العربي، للمطالبة بحقوق المرأة والمطالبة بالسماح للنساء بالاشتراك في الكفاح الوطني والسياسي، وإصلاح قانون الأحوال الشخصية، وتساوي الأجور في العمل.
إلاَ أن النظام الملكي ، آنذاك ، أيضاً في وقتها قال كلمته، ويُقال إن الملك فاروق بعث برسالةٍ إلى درية مع زوجها تضمنت: “أنَ النساء لن ينلنَ حقهن في الانتخاب طالما هو على عرش مصر”.
درية شفيق (1908-1975)، كانت إحدى اللاتي حطمنَ واحدةً من “غرف الحريم”، ودفعت ثمناً امتدَ على الثلاثين عاماً الأخيرة من عمرها، قضت منها ثمانية عشرة، في هاجسٍ لم يفارقها طوال إقامتها الجبرية، بحسب ابنتها، جيهان رجائي، في مقالٍ كتبته يروي سيرة والدتها، “هل يعقل أن يذهب مافعلته هباءً؟!”.
الموحدون الدروز .
في غرفةٍ اجتماعية، تصارع الفتيات في الطائفة الدرزية، التي تتواجد بأكثريتها في سوريا، لبنان، فلسطين، إلى جانب تجمعاتٍ مهاجرة محلية صغيرة في الأردن، فنزويلا والولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا وأستراليا ، لتنعم بحق اختيار الشريك، دون قيدٍ أو شرط، فقط أن يكون اختياراً حراً.
في حقيقية الأمر، من غير الواضح فيما إذا كانت الطائفة الدرزية تمنع الزواج من خارج الطائفة لسببٍ ديني أم لعاداتٍ اجتماعية، فرغم أنَ هذا التحريم موجودٌ بالأُسس الدينية للطائفة، إلاَ أننا لم نشهد حالة قتلٍ واحدة لزوجة شابٍ درزي اختارها من خارج الطائفة، في المقابل هناك ما لايقل عن مئة حالةٍ موثقة من قتلٍ لفتيات، حصلت بحقهنَ بعد اختيارهن لشريكٍ من خارج الطائفة.
الكاتبة السورية المعروفة الدكتورة آراء جرماني رأت أنَ “غرفة الحريم” التي وُلِدَت فيها ضيقة جداً على عقلها قبل قلبها، فكان قرارها هو الخروج منها والنظر من أعلى لخيارات الحياة الواسعة جداً، ليوصلها القدر إلى شريكٍ في الحياة من خارج طائفتها التي وُلِدت عليها، خيارٌ أكسبها نفسَها، كما تؤمن بها، لكن في المقابل دفعت وتدفع ثمناً باهظاً له بأن تنكرت عائلتها لها وحرمتها من احتضانها طيلة الأعوام بعد هذا الاختيار.
رغم صعوبة الأفضلية، إلاَ أنَ اختيار الجرماني يضعنا أمام سؤالٍ صعب في حياتنا عموماً، هل تريد أن تحيا بحسب قناعاتك، أم بحسب المتاح لك؟.
إنَ فتح باب أي غرفةٍ من غرف الحريم هو خطوةٌ مُحِقة في هدم وتحويل هذا الحريم إلى أرضٍ تُبنى بحسب رغبة وقناعة المرأة.
تَجاوَزت درية حدود قضيتها الشخصية لتدافع عن حقٍ عام للمصريات، رغم أنَ أساس قضيتها شخصي، حيث مُنِعَت من التدريس في جامعة القاهرة لأنها امرأة، وهي العائدة من فرنسا برسالتي دكتوراة، إحداهما عن مكانة المرأة في الإسلام.
بعيداً عن المنفعة الذاتية، اختارت درية المنفعة العامة ودفعت حياتها ثمناً، كذلك تفعل آراء دون أن تدرك، فتمَثُلِ حقٍ ما وممارسته، هو أقصى درجات الدفاع عن هذا الحق. فاطمة المرنيسي لم تمتلك وصفةً أو حلولاً لتكسير أسوار “الحريم” المُتعدد الغرف الذي رأت أنَ المرأةَ مسجونةٌ فيه، لكنها كانت مثلاً للفكر الحر بممارساتها، وإن هي دعت إلى كسر الصمت والحجاب بالحديث والكتابة واستخدام القلم، فأنا أدعو إلى ممارسة ما كُتب طوال السنين الماضية وتحويله إلى فعلٍ عام لايقتصر فقط على نخبةٍ نِسويةٍ مُحددة.
يفرض الواقع العربي بما يحمله من تعقيداتٍ فكرية ودينية وعاداتية تحدياتٍ متتالية على المرأة بشكلٍ خاص، فلا تكاد تخرج من غرفة حتى يُدخلها الواقع في أخرى، ولا تكمن المعضلة فقط في تمكنها من اجتياز واحدة منها، بل وأيضاً في الاحتفاظ بكميةٍ من الفرح والحياة بعد هذه المعارك المُقدَر لها خوضها، هذا بالنسبة للمرأة المحظوظة قليلاً التي تتجرأ وتقرر عيشَ الحياة على مقاسها، بعيداً عن مقاسات المجتمع، أمَا من تُقرر البقاء في أول “غرف الحريم” التي وُلِدَت فيها، تكون قد اختارت الطريق السهل واكتفت بأساسيات الحياة دون أن تُجهِدَ نفسها محاولة تجربة رائحة الهواء خارجها.
ثمناً باهضاً دفعته درية وتدفعه آراء، والقضية واحدة، حرمان المرأة من حقٍ لا بد أن يكون مُصاناً لها. ويبدو أنه قدرٌ لا مفر منه هذه المواجهات كي تنعم المرأة العربية بشكلٍ خاص بأسس الحياة الطبيعية.
من حريم المرنيسي إلى حريم درية إلى حريم الجرماني، جميعها كان بابها موصداً، إلاَ أنهن حطمنه وتجاوزن عتباته.
فاطمة المرنيسي استطاعت أن تحول “حريمها” إلى فرحة وانتصار، وفي مصر إنتهى الملك وعرشه، وبقي حقُ الترشح والانتخاب للمرأة المصرية، والجرماني، نراها مثالاً للمرأة التي قررت اختيار تفاصيل حياتها بحسب قناعاتها وقلبها، وتدفع ثمناً لشجاعتها.
الغرف منفصلة، لكن فناء الحقوق مُتصل، بين الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي ربما لم نلحظه كثيراً حتى الآن، الغرف المقفلة لاتزال كثيرة، وبانتظار خلع أبوابها، لتستنشقَ نساؤها رائحة هواء الحرية.