بهذه الكلمات خاطبني الراحل الجميل الدكتور حسان عباس قبل خمس سنوات، “اكتب يومياتك يا ميشيل مع المعتقلات والمعتقلين الذين دافعت عنهم والتقيت بهم في نظارة القصر العدلي بدمشق وأمام أبواب قضاة التحقيق.. اكتب يا ميشيل فالزمن غدار..”، ثم عاد قبل شهرين وذكرني أنه مازال ينتظر توثيق مشاهداتي في الدفاع عن المعتقلين.. لكن الزمن كان غداراً، فغدر به، لم يمهله، اختطفه من وسطنا في وقت نحن أحوج إلى وجوده حياً بيننا.
التقيت شخصياً بالراحل أول مرة في مقر الرابطة السورية للمواطنة بحيّ بدارو في بيروت عام 2013، وإن أول ما لفت نظري فور دخولي مكتب الرابطة تلك الرزم المكدسة من الكتب، وعندما سألته عن تلك الكتب، أجابني الراحل إن هذه الكتب تروي قصص السوريات والسوريين وحكاياتهم بحلوها ومرّها مع أول انتفاضة يجرؤون فيها على قول “لا” و”كفى” لطاغية دمشق، وهي تنتظر هنا لتوزيعها لمن يهتم، وأذكر حينها أنه قال لي وهو يشير إلى تلك القصص: “ننتظر منك يا ميشيل أن تكتب لنا أيضاً مشاهداتك اليومية في المحاكم، فمن حق الناس عليك وعلى كل الذين يدافعون عن المعتقلات والمعتقلات، أن يعرفوا ما كان يجري معهم عند إحالتهم من الفروع الأمنية وكيف كان يتم التعامل معكم ومعهم من قبل عناصر شرطة القصر العدلي وقضاة المحاكم” وعندما رويت له بعضاً من مشاهداتي عاد وكرر طلبه، وتعهّد حينها بطباعة ما أكتبه على نفقة “الرابطة السورية للمواطنة”، كما قدّم باسم الرابطة دعماً مادياً للمعتقلين وعائلاتهم، وأعلن استعداد الرابطة عن تقديم أي دعم ممكن لقضية المعتقلين ولهيئة الدفاع عن المعتقلين.
ثم توالت لقاءاتي معه خاصة بعد أن تحوّلت بيروت على مدى سنوات إلى ملتقى السوريات والسوريين الهاربين من بطش مخابرات الأسد التي كانت تلاحقهم إلى أي مكان يلجؤون إليه قبل أن تتحول بيروت إلى مكان طارد خاصة للسوريين المعارضين لنظام الأسد. وأذكر أنه في أيار 2015 عندما كنتُ في مقر الرابطة وردني اتصال من جنيف أخبرني المتصل أن اسمي مدرج بين الأسماء الذين سيلتقيهم المبعوث الأممي الجديد “ستيفان ديمستورا” للاطلاع على رأيهم بشأن الأوضاع في سورية. وعندما علم الراحل بأمر لقائي مع “ديمستورا ” قال لي يجب أن تسافر إلى جنيف، فأنت أفضل من يعرض قضية الاعتقال والمعتقلين وتسلط الضوء على مأساتهم الإنسانية وما يتعرضون له من تعذيب في مراكز الاعتقال، وشدد على أن هذه القضية الإنسانية يجب أن تكون في سلّم أولويات أي حل في سورية.
وعندما انتقلت مع عائلتي إلى بيروت في تموز عام 2015، هرباً من الاعتقال، كان من حسن حظي أنني عثرت على شقة للسكن لا تبعد عن مقر الرابطة أكثر من عشر دقائق مشياً على الأقدام، وهذا ما سمح لي بالتواصل شبه اليومي على مدى ستة أشهر مع الراحل وجميع أعضاء الرابطة حتى شعرت أنني أصبحتُ جزءاً منهم.
إن أكثر ما شدّني إليه الراحل هو جوابه الدائم لمن يسأله كيف تفضل التعريف بنفسك: “أنا إنسان قضيت عمري بالتعلّم ولا أزال طالب علم، عدا ذلك، أعمل موزّعاً طاقتي بين ميادين ثلاثة: البحث والتعليم والعمل المدني. غايتي من البحث هي المساهمة في معرفة من نحن كبشر من هذه المنطقة، ولماذا صار حالنا إلى ما هو عليه من تأخر وفوات. غايتي من التعليم هي أن أنقل ما أتحصّل عليه من علم إلى أوسع شريحة من شباب بلدي. أمّا غايتي من العمل المدني فهي نشر ثقافة المواطنة بما تتطلبه من ديمقراطية وعلمانية وفكر نقدي”.
خسارتنا اليوم برحيل حسان عباس هذا السوري الجميل خسارة كبيرة لا تعوض، فقد خسرنا برحيله حكيماً ومثقفاً وناقداً وأكاديمياً ومحاوراً لم يبخل أبدأً بنقل معرفته للآخرين، وخسرناً مؤلفاً لعدد كبير من الكتب صدر آخرها في الأول من مارس آذار أي قبل ستة أيام من رحيله وحمل عنوان ” الجسد في رواية الحرب السورية”، وقد احتفى الراحل بصدوره على صفحته، وكأنه كان يستشعر غدر الزمن به.
كما خسرنا برحيله مناضلاً عنيداً وصلباً ضد الطائفية والاستبداد والتطرف، ومناصراً قوياً لنشر مفهوم المواطنة بين السوريات والسوريين، ولهذا سعى إلى تأسيس الرابطة السورية للمواطنة إلى جانب عدد كبير من الناشطات والناشطين، والتي عرّفها الراحل: “إنّها تجمع مدني طوعي لكل من يرغب في العمل على ترسيخ المواطنة وقيمها على صعيد العلاقة بين المواطنين، والعلاقات بينهم وبين الدولة، والعلاقات بينهم وبين المحيط الذي يعيشون فيه. ومع أنها ليست تنظيماً سياسياً، فإنّها تعمل في الشأن العام وتسعى إلى أن تكون ذات تأثير في المجتمع المدني”. ولخص الراحل أهدافها “المشاركة الفاعلة والواعية لأي شخص دون استثناء أو وصاية في بناء الإطار الاجتماعي والسياسي والثقافي للدولة. وقد لعبت الرابطة دوراً مهماً في تعريف الناس بمفهوم المواطنة وحقوق الإنسان من خلال الدورات التدريبية الكثيرة التي أقامتها في بيروت والتي شارك فيها مئات من السوريات والسوريات على امتداد سنوات عديدة.
موجعة جداً هذا الخسارة، ومؤلم أكثر هذا الرحيل المبكر للسوري الأصيل الصديق الجميل حسان عباس، وإن فقده في هذه الظروف الصعبة التي نعيشها، حيث نحن بأمس الحاجة إلى حكمته وتوازنه وخطابه المعرفي الهادئ سيزيد أعباءنا ويثقل كاهلنا بالفراغ الذي سيتركه غيابه المفاجئ، لطالما كان الراحل سوريّاً حقيقياً وجامعاً، فإن لساننا يعجز عن رثائه الذي يستحق.
لترقد روحك بسلام يا صديقي، وستظل حاضراً بيننا بإرثك النيّر الذي تركته لنا أيها السوري الجميل.
ميشيل شماس .