رفيق قوشحة – الناس نيوز :
يعطي حجم التفاعل الذي جرى على وسائل التواصل الاجتماعي بصدد رحيل الباحث والناشط والأكاديمي الدكتور حسان عباس المكانة الأثيرة المميزة التي حظي بها في المجتمع السوري ( والعربي ) ، الأوساط الثقافية والسياسية والفكرية فيه بشكل خاص , مما أشاع هذا الحزن الكبير والتعبيرات المؤثرة والتضامن الوجداني مع شخص الراحل حسان عباس ونشاطه العلمي والوطني وإرثه الفكري ، لا سيما في قضايا تحقيق المواطنة والمجتمع المدني .
شكّل رحيل حسان عباس صدمة ، ربما نتيجة لشعور ضمني عميق لدي الكثيرين من أن سوريا في هذه المرحلة العصيبة حقا التي تمر بها هي أحوج ما تكون إلى رجال من نوع حسان عباس ومستواه الفكري والإنساني والمعرفي والوطني والمجتمعي وهو ما ركزت عليه كل المنشورات بما يشبه الإجماع، وكانت تشير بوضوح لا لبس فيه إلى أهمية المشروع الفكري الذي حمله حسان عباس على منكبيه وفي قلبه على مدى يزيد على ثلاثين عاما في دمشق، وتحت عيون الأجهزة الأمنية لنظام الاستبداد الذي يعلم الجميع أنه لم يكن يخيفه شيء أو أحد بقدر أولئك الذين يشكل الراحل نموذجا ساطعا لهم، وهم المثقفون الديمقراطيون العلمانيون السوريون الذين اختاروا هذا النوع من العمل التوعوي الفكري الجاد والعميق بشقيه الوطني والثقافي تحت أهداف مجتمع ودولة المؤسسات , سيادة القانون , حرية التعبير , والتنوير الفكري والديمقراطية .
كان أمثال حسان عباس في سورية على مدى حكم الأسد الأب والابن أيضا هم الأكثر تعرضا لمحاولات القمع والإسكات والتهميش والمنع من العمل في الجامعات ومراكز البحث العلمي ناهيك عن محاولة ملاحقتهم سياسيا لمن كان منهم عضوا في تشكيل حزبي هو غالبا من قوى اليسار الديمقراطي السوري وهم قلة , لذا فقد تعرض الدكتور عباس لما تعرض له كل أقرانه وبالفعل تم منعه من العمل أستاذا في جامعة دمشق مرتين على مدى أكثر من عشر سنوات من المحاولات حتى أوتي الحظ الكافي وعمل أستاذا في قسم الدراسات المسرحية في المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق لما تمتع به المعهد من استقلالية نسبية وإدارات متفهمة، ناهيك عن تبعيته الإدارية لوزارة الثقافة وليس لوزارة التعليم العالي أو الإعلام وكان له أن استمر في التدريس لمدة عشرة أعوام وترك أثرا علميا واجتماعيا متفردا يشهد على ذلك معاصروه من الأساتذة في المعهد أو منشورات طلابه الذين درسوا عليه وتخرجوا ونشطوا في سوريا التسعينيات وما بعدها .
يميز جهد وعمل حسان عباس أنه وببساطة ويسر ملفتين استطاع أن يجعل من العمل الفكري مادة في التداول الاجتماعي اليومي، نازعا عن صورة المثقف سمتها النخبوية السلبية , بمعنى أنه تعمد من خلال النشاط الثقافي الدوري الذي أشرف عليه في عمله في مركز الدراسات والأبحاث الفرنسية في دمشق على مدى يزيد عن خمسة عشر عاما أن يطرح الافكار المحرمة : الديمقراطية , التعددية , الحريات , حوار وتواصل الثقافة المختلفة , الحقوق الأساسية في المجتمع , السمات النقدية في الفكر والفلسفة والأدب ,,إلخ من الموضوعات , استطاع أن يطرحها في أتون النشاط والحوار اليومي في أوساط الشباب والمبدعين في سوريا الذين كانوا يهتمون بالتواصل مع نشاط المركز، وكان واضحا تماما أن الدائرة توسعت بسبب من العمل الدؤوب وظهرت أسماء مهمة من الشباب المبدع في الشعر والقصة والرواية والمسرح تمت بصلات قوية إلى الفضاء الشيق والغني الذي خلقه هذا الرجل الدؤوب على مدى سنوات، والذي توجه مع بداية حراك الشارع السوري عام 2011 بتأسيس الرابطة السورية للمواطنة التي وجدت صدى واسعا عند كثير من الشباب السوري في تلك المرحلة شديدة الحساسية في تاريخ سوريا المعاصر .
يكاد توصيف المثقف العضوي عند غرامشي ينطبق على الدكتور عباس ويتجاوزه في كثير من الأحيان على الطريقة السورية وفي الظروف السورية اجتماعيا وسياسيا في تلك المراحل , من أن, المثقف العضوي الذي يتناغم جهده ونتاجه الفكري والثقافي عموما مع جوهر المتطابات والمعاناة الإنسانية والاجتماعية لمحيطه الحيوي , باعتبار أن كل جهد حسان عباس لم يخرج عن إطار أفكار الحرية والديمقراطية والتنوير والعقلانية ضد التعصب بكل أشكاله الدينية والقومية وغيرها ولعل هذه بإجماع الكثيرين هي الأمراض والعلل الرئيسية التي عانى وما زال مجتمعنا السوري والعربي يعاني منها حتى الآن في ظل ظروف الاستبداد السياسي وحليفه الديني .
كانت خسارة المفكر اللبناني لقمان سليم كبيرة لنا قبل أسابيع من رحيل حسان عباس , ولعله ليس مصادفة أن يكون حجم ردود الأفعال على رحيلهما بالقدر نفسه من الزخم والعاطفة والتقدير لأنهما فعلا وعمليا كانا كل في محيطه يعملان دون اتفاق على المسار نفسه والقيم نفسها والثقافة نفسها , قيم الحرية , الديمقراطية والتحرر من الجهل والتعصب والاستبداد , فخسرنا لقمان سليم في عملية اغتيال لمنهج عمل وفكر مدني في مواجهة طوائف مافيوية ظلامية تتغطى بشعارات المقاومة الزائفة ,جعلنا المرض العضال نخسر حسان عباس لتكون الخسارة مضاعفة ولا يمكن تعويضها مهما كانت الأرض ولادة , فكلاهما شكل حالة أشبه بالعقل المنير والمنتج للوعي الإنساني الاجتماعي الحر الممتزج بإرادة التغيير , وهذا هو بالضبط ما نحن أحوج ما نكون إليه للخروج بمجتمعنا من عنق الزجاجة الذي استطال أكثر مما يحتمله البشر .
يبقى لنا إرث حسان عباس الكبير والغني الذي يمكن في ضوئه العمل على تعزيز هذه القيم بإثارة الأسئلة نفسها والعمل على تطوير الأداء بما يليق بهذه القيم وما يليق بإنساننا الذي تليق به الحرية والحياة الكريمة ، هذا الإرث مسؤوليتنا جميعاً .
رفيق قوشحة – كاتب سوري .