حمادة لاذقاني – الناس نيوز :
جاءني خبر مرضك قبل أشهر. أردت الاتصال بك يومها. فوراً. لكني شردت قليلاً، قليلاً تكفي حتى يثنيني شيطاني ويملي عليّ بأن الكتابة أخف وطأة. لا أثقل عليك، ولا أجهد نفسي في ترديد كلام المواساة الذي أجهل بالصوت. بالصوت يا حسان. وأنت تَسمعُ على الطرف الآخر من الهاتف. من العالم. تخيل؟ يعني لو كنتُ أعرفُ أنك لن ترد على هاتفك، فأترك لك رسالة صوتية – فيها وما فيها يا حسان.

انتظر. القصة ستحلوّ. في اليوم ذاته، الذي جاءني فيه خبرُ مرضك، والذي لم أتصل بك فيه حتى أكتب لك، تبدّل القرارُ مرة أخرى. ذات المساء من ذاك اليوم، راودتني نوبة إنكار. هكذا: (أطنّش) كأن خبراً لم يجيء. شيء ما طمأنني بما لا يقبل الريبة أن المسألة صغيرة عابرة. فالحياة كلها أشغال يا حكيم. سأراك في بيروت في الصيف. سأسHلك عن صحتك. ستخبرني بأنك على ما يرام – لكن مشتاق لأحباب سوريا والإمارات وفرنسا وإنكلترا – آرام بدّل سكنه، كسور يزن لا تثنيه عن تسلق الجبال. حال الشتات الملعونة هذه لا يمكن أن تدوم – لكن العمل أسهل من هنا. الرابطة والجمعية والمنتدى والجامعة وطوابير البحوث ومشاريعها.
هل تعرف؟ أنا أعرف. ستحدثني عن أخبار مشاريعك وأشغالك فلا يتيح لي الوقتُ الضيق أصلاً سؤالَك عن صحتك، ولا أقول إن خبر مرضك قد جاءني قبل أشهر، وإني كنت سأسأل عن صحتك، لولا نوبة إنكاري وقرار التأجيل حتى أسألك أو لا أسألك، حين أراك صيفاً. في بيروت.
25/01/2021
رسالة في هاتفي: (حاكيه. الآن “متحسن” بعد نكسة أول السنة. يزن وآرام عندهم في دبي).
أفففف.
07/03/2021
حسان.

10/03/2021
ثلاثة أيام على رحيلك. الإنكا – النوبة التي رويت لك عنها قبل قليل تراوحني.
المسألة ليست أنك لم ترحل. رحلت. هناك حزن. وصلتني رسائل تعزية – وأرسلت بدوري التعازي. لكن – عجيب. أستيقظ صباح اليوم على وقع هذه الفانتازيا – اسمع: ماذا لو أن الخبر غير حقيقي؟ أوووف. يا حسان. يا حسان. فهمتُ أنك رحلت. لم يبقَ أحد لم يكتب عن رحيلك. لكني أراك في صالون بيتك في مشروع دمر. هكذا – تقرأ كلمات أحبابك، وكلامي معهم. تضحك. تبتسم. تغضب أحياناً. أراك وحدك، ولا أعرف إذن فيما إذا كانوا متواطئين – يزن وآرام وزهرة. ماذا لو كان الخبر كله كاذباً؟ لا أقصد الكذب بالمعنى قليل الأدب – خبر كاذب بالمعنى الدونالد ترامبي – خبر فيسبوكي، حسان. لا أقول مُلفّق. لا، لا، لا. فهمت أنك رحلت. لكن، لأسباب أمنية – مثلاً؟ فهمت علي؟ فهمتم علي؟
نينا ابنتي تنادي. النداء هذا هنا في البيت – لا في الرؤيا. لحظة من فضلك.
عدت. هل تذكر البشارة بـ “نينا”؟ قلت لك: ما رأيك أن نطلق عليها اسم آرام؟ آرامي، ويقبل التأنيث.
حسان: “شو؟! اسمعوا على هذا الكلام. ما عندنا آرام؟”. نظرة إلى بطن نجلاء المنتفخ: “سمّياها فَيء – لا داعي للهمزة إن رغبتما. فَيّ. خفيف لطيف”.
طيب. لا تزعل. نجلا لا توافق على آرام على كل حال. لا تزعل يا عم. نسميها يزن؟
أنت يا حسان، خفيف لطيف مثل فَيء. لكنك تزعل. أنا أعرف أنك تزعل. تزعل من الظلم والتجويع، وتزعل كثيراً من سلب الحقوق وتغييب العقول. تزعل من العمل حين لا يكون مُتقناً. زعلتان شخصيتان في رصيدي أنا وحدي.

الأولى يوم سألتني عن رأيي في كتاب غبار الطلع لعماد شيحة، فأجبتك بأني لم أكمله. تذمرتُ لأني وجدت قراءته مضنيةٌ، وكررتُ كلاماً سمعته بأنه مكتوب لأصدقاء عماد دون غيرهم. “شو؟! ما بيصير – لازم تقرأ كل كتاب للآخر”، قلت مع نظرة جادة مَهيبة – استدرَكتَها تجبر خاطري هامساً “هذه المرة فقط – لا بأس. الحقيقة، صعبٌ هذا الكتاب”.
الثانية يوم قررتُ الانسحاب من العمل على كتاب عن أعلام دمشق لدمشق عاصمة الثقافة العربية 2008 بعد أن طلبوا مني إضافة أسماء “أعلامهم”. “ما بيصير تنسحب،” قلتَ مع النظرة الجادة المهيبة تلك – “يخرب بيتهم – كيف يجرؤون؟” أردفت.
نينا تنادي مرة أخرى. لحظة. عذراً.
المهم، حسان. إن كنت تقرأ هذه الكلمات (وأنت لن تقرأها بطبيعة الحال – لكنها ستصلك) أعلم أني حين بدأت الكتابة، حسبت أني سأكتب عن أشياء كثيرة مختلفة عن تلك التي كتبتها للتو. أعرف جيداً أن أصدقاءك، الذين يعرفونك أكثر مني بكثير، ما تركوا شيئاً ما كتبوا عنه – عنك.
فكرت، حين بدأت، أني سأكتب لك عن المواطنة. عن الأرشيف وأرشفة التراث السوري الضائع في الحرب. عن حسان المؤسسة في غياب المؤسسات. عن لغتك الجميلة: إصرارك على استخدام كلمات عامية سورية طريفة، تعقبها بحماسة ملاحظة حول دخول الكلمة في العربية الفصحى. عن أسماء الضيع وشخصيات المسرحيات الفلكلورية – الأمثال والحكم والأساطير. عن موسيقاك والأغاني الجميلة.

عن ألبومات – جمع بومة – التي تزين رفوف بيتك وجدرانه. زرت بيتك يا حسان أول مرة حتّى أدرّس يزن الإنكليزية. اليوم أجلس مع يزن في مقهى نطلق عليها “مقهى حسان” في كامدن بلندن –_لصاحبها شاربان جميلان – أستمتع بطلاقته في اللغة. يتقنها أكثر مني هذا اليزن. صحيح! أثناء دراسته الجامعية هنا، ردّ لي يزن “الجميل”. كيف؟ صرنا نشتري القهوة من تلك المقهى بسعر مخفض مخصص للعاملين فيها، بمعيته.
أين كنتُ؟ كنت سأكتب عن نقاشات فيلم صندوق الدنيا وعشرات العروض في الإيفياد – الإيفبو في أبو رمانة. لكن لن أكتب عن تحفظات المعارضين السوريين على عملك لأنك “حرام عليك”، و”مثقف بحجمك كيف يحجم عن العمل بالسياسة”، فـ “الثقافة بدون سياسة لا تجدي”. عجبك؟
ثم كيف لا أكتب عن نادي القراءة في بيت جبري – الذي تعرفت على نجلاء في إحدى أمسياته – فتزوجتني فيه. بعد سنوات ستسرّ أنتَ إلى فاديا، التي أفشت لنا السر نجلا وأنا، أنك من أول وهلة، قدّمتنا نجلا وأنا واحدنا للآخر، حلمتَ/ تمنيتَ في أعماقك أن “نقع في الحب” ونعيش حياتنا سويةً؟ على سيرة الحب: عن رقصتك الجميلة مع زهرتك في الحفلات – أكتبُ يا جميل! تذكرتُ واحدة طريفة. تفضل: كنت سأُذكّرك بأمسية استضافة نزيه أبو عفش وقصيدته التي أغضبت رجل الأمن المندس – المكشوف من زمان يا حسان. تذكرت؟
رسالتان من حسان
رسالة1: رحم الله امرأً
أسمح لنفسي بأن أشارك مقطعاً من رسالة أرسلها حسان يعتذر مني عن المشاركة حين طلبت منه مقابلة إذاعية حول الموسيقا الدينية في سوريا بعد كتابه (الموسيقى التقليدية في سوريا). اعتذار بجمال مشاركة:
حسان: “يؤسفني أن أعتذر عن المشاركة (ليس فقط لأنني أتجنب قدر الإمكان الميديا) لكن أيضا وبالدرجة الأولى لأنني لا أعتبر نفسي عارفا بموضوع الحلقة. رحم الله امرأً عرف حده فوقف عنده، وأنا ألتزم دائما حدودي وأعكف عن الخطو وراءها. صحيح أنني وضعت كتابا عن الموسيقا (وهو كتاب عن الموسيقا التراثية وليس فيها) وهو ما يمكن إدراجه في مبحث علم الإناسة الثقافية. وهذا لا يعطينا أي حق في الكلام في موسيقا الإنشاد وخاصة أن هناك اختصاصيين ذوي باع طويل في الأمر (د. فواز باقر على سبيل المثال) ولا أجرؤ على الإدلاء برأي أمام رحابة علمهم”.

رسالة2: فصوص العروس – إلى نسرين الزهر ونجيب الخش – في الثامن والعشرين من آذار مارس 2020
أسمحُ لنفسي أن أشارك رسالة ثانية من حسان
على فيسبوك – كتب صديق:
“صابيعك ملقّسة وخدودك معاجيق
من وين بدّي بلّش شمشمة وتمجيق”.
حسان يسأل: هل تعرفون الاسم الآخر للملقسة؟
أنا: كبيبات؟
حسان: غلط.
نسرين ونجيب، ولا أعرفهما إلا بالاسم، جربا الإجابة أيضا. حسان عاجلني برسالة خاصة حتى لا يكشف لغز الحزورة – أشارك الحل معهما: “حمادة الاسم الآخر للملقسة في مصياف كان “فصوص العروس” على اعتبار أن الطبق كان يقدم للعروس لأنه حامي (بكل المعاني) لكنه مولد للغازات. مشتاق لكم”.
لندن في 10 آذار مارس 2021


