كان مشهداً مهيباً لأساتذة جامعة القاهرة وطلابها حين دخل موكب الجنازة إلى حرم الجامعة، (يبدو أنها وصيته)، حيث وهب الدكتور حنفي هذه الجامعة خلال خمسين عاماً أصدق ما بثه القلم ونطق به اللسان وجرت به الحكمة، وكانت لحظة صوفية غامرة لطلبة جامعة القاهرة وأساتذتها، اختلطت فيها المشاعر بالمدامع، لقد أراد أن يقول أريد أن لا يضيع في صحيفتي شيء من عبادة الحق وصلاة اليقين، وأريد ان أرد على الله كامل البرهان، وأن تشهد لي تلك العقول التي سرحت في بستاني في مشوارها إلى المعرفة وأنا أرسم لهم ملامح الاتصال بين العقل والنقل، وبين الله والإنسان.
رحل حسن حنفي.. الرجل الذي أطلق وعياً مختلفاً في الإسلام وأسس لتوجه فكري عميق يرسم ملامح الوفاق والفراق بين الدين والفلسفة، أهم ما فيه أنه يكسر ذلك الخطاب الحدي الصارم الذي يغلق الدين على فهم السلف ويلقي بالآخر في دائرة الردة، أو ذلك الذي يغلق الفلسفة على الملاحدة ويلقي بالإيمان في دائرة الجهل.
لم يكن حسن حنفي من نجوم اليوتيوب ولم يكن خطيباً ترتعد له المنابر، ولم يكن له مريدون يجثون بين يديه على الركب، ولم تكن له لحية عظيمة ولا عمامة متدلية تشير إلى علمه وفقهه، ولكنه كان قلماً وفكراً ورسالة….
قرأت له مئة مرة ولكنني التقيته مرة واحدة حين زارنا في مركز الدراسات الإسلامية بدمشق عام 2009، حيث ألقى محاضرة مهمة في كوادر المركز وضيوفه، وتحدث فيها عن عنائه في رسالته، فقد اختار أن يفكر بشكل حر، وأن يقدم رؤيته وفق ما تمليه دراساته ومقارباته الموضوعية، في أنسنة الإسلام، وتقديم خطاب مختلف يمكن أن نقدم به الحضارة الإسلامية للحضارة الإنسانية، ولكنه وجد نفسه إسلامياً مع العلمانيين وعلمانياً مع الإسلاميين، وتلقى هجوماً ضارياً من الطرفين، وهو عناء نتشاركه ونفهمه، وهذا قدر من يريد أن يفكر خارج الصندوق، وينظر في عين الشمس.
لقد تمسك بإيمانه بإنسانية مئات الملايين التي تتحلق حول النبوة، وفي الوقت نفسه أصر على تصحيح الخطاب اللاإنساني الذي يتغلغل في تراثها.
لخص مشروعه الفكري في التأسيس لليسار الإسلامي، وقد نجح تماماً في بلورة الاتجاه اليساري في الإسلام في ضوء الكفاح الذي رسمه الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري، والميول الاشتراكية الواضحة التي ظهرت في سياسات العمرين بن الخطاب وابن عبد العزيز.
ولكن الجانب الذي تخصص فيه حسن حنفي لم يكن اليسار بالمعنى الثوري بل بالمعنى الفلسفي، مع أن عنوان كتابه المؤسس ثوري بامتياز وهو من العقيدة إلى الثورة، ولكنه ثورته المقصودة ثورة العقل وليس ثورة السيف، ومنبر الجامعات لا صخب المناجل والمطارق، وهي ثورة قائمة على إعلاء دور العقل في الإسلام، والاعتراف بحقه في محاكمة المفاهيم الإسلامية الكبرى في النبوة والمعاد والتوحيد، وذهابه إلى تأويل النبوة تأويلاً عقلانياً، قائماً على مقارنة النبي بالفيلسوف، وهو موقف قديم لفلاسفة المعتزلة في الإسلام الذين رأوا أن النبوة حاجة أكيدة لعموم الناس فيما يجد الخواص حاجتهم في أداء الفلاسفة، وهو الموقف الذي جعله في صراع حدي ومباشر مع رجال الدين في الأزهر والتيارات السلفية المختلفة.
بالطبع فإن هذه المساحة التي تحرك فيها حنفي على خطى الفلاسفة المسلمين لا تحظى بقبول رجال الدين الذين يعتقدون أن الاجتهاد في الاعتقاد انقطع تماماً بآية اليوم أكملت لكم دينكم وأنه لا اجتهاد في مورد النص، وأن الاجتهاد المحمود هو في فهم النص فقط وكل فكر جديد في العقيدة فهو محدث، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
ولكن حسن حنفي لم يتوقف عند هذه الإطلاقات التي تغتال العقل كل يوم، وتمكن من تأسيس مدرسة كاملة في نقد التراث حين أصدر موسوعته: التراث والتجديد في أربع مجلدات 1992، خاض فيها غمار مواجهة قاسية مع سدنة الوهم، الذين يصنّمون التراث إلها يعبد، ويقومون بطباعة الكتب الصفراء على أوراق بيضاء دون أن يقدموا أي جديد للمعرفة، وطرح في مواجهة هذا الوعي مقاربة حضارية بما تقوم به الأمم الواعية الناجحة في سياق إحياء تراثها، وعلى رأسها القراءة النقدية للتراث التي تجعله مكان محاكمة ونظر وليس مكان قداس وخضوع.
وتلقى في سياق ذلك سلسلة من فتاوى الردة، وكثير منها تم على الهواء مباشرة، ولولا مكانة الرجل الأكاديمية التي لا ينازع فيها ونزعته السلمية لناله ما نال فرج فودة والذهبي أو ما أصاب تلميذه نصر حامد أبو زيد.
وقناعتي أن اليسار الإسلامي واليمين الإسلامي مشروعان ضمن الإسلام، وكلاهما تحتمله هذه الشريعة، وفي السياق نفسه الرأسمالية في الإسلام والاشتراكية في الإسلام، فالإسلام مخزن معرفي وثقافي، وهو يتطور ويتجدد، ويَثرى ويُثري، ويكسب ويكتسب، ويضيف منه ويضيف إليه، وفي هذا السياق قدم الفلاسفة في الإسلام رؤية متجددة لمسائل الوحي والنبوة والمعاد.
وفي هذه النقطة فلا بد أن نستحضر العبارة الشهيرة التي يرفعها تيار النص في وجه المفكرين الأحرار وهي أن الإسلام واحد، ولا يوجد منه نسخ متعددة، وهي كلمة تبدو منطقية ونصية، ولكنها في الواقع تحمل رؤية إقصائية وقمعية، وهي بالمناسبة شعار يطلقه السني والشيعي والصوفي والسلفي وسائر الحركات الإسلامية من طالبان إلى أردوغان وما بينهما، وفي كل مرة يقال الإسلام واحد والمقصود هو دين الطائفة أو المذهب الذي يلقي بالآخرين في الجحيم.
ويحدد حنفي وجه التناقض بقوله: التراث جواب لسؤال: ماذا يقول؟ والتجديد جواب لسؤال: كيف يقول؟ ولكننا سنبقى أسرى هذا التناقض حتى ننجح في طرح الجوابين متجاورين متكاملين.
ويسجل لحسن حنفي كفاحه الأكاديمي لبلورة علم الاستغراب، الذي اعتبره المكافئ الموضوعي لحركة الاستشراق والمنبر المناسب لشرح حضارتنا الإسلامية في منابر العلم والأكاديميا في الغرب، وقد حقق في ذلك أعظم نجاح في كتابه مقدمة في علم الاستغراب، وبات بالفعل مؤسس علم الاستغراب الإسلامي.
وينطلق حسن حنفي في دراساته للحضارة الغربية من زاوية ندية واثقة، وهو يتفهم تماماً رسالة الاستشراق ويرى أنها حق قومي للحضارة الأوروبية، ولكنها تستلزم مباشرة حقنا القومي في الجانب الشرقي والإسلامي لإنتاج علم الاستغراب، ودراسة الحضارة الغربية دراسة نقدية معرفية، لا تقوم على الموقف الصبياني المشهور القائم على الولع باتهام الآخرين بسرقة معارفنا وعلومنا، والاكتفاء بالقول المشهور لقد اكتشفنا ذلك قبلهم بأربعة عشر قرناً!! بل تقوم على منطق تبادل المعرفة واغتناء الحضارات وتشارك الإنسانية، وأعلن بثقة أن الحضارة الغربية كالحضارة العربية تصيب وتخطئ، وأننا نمتلك حق محاكمة هذا التراث الإنساني والاختيار منه والتصويب عليه والإضافة إليه.
وفي وعي لافت يؤكد حنفي أن ما أنتجه المستشرقون ليس بالضرورة دراسات موضوعية بل هي موضوعات دراسة، ولن يتسنى لنا الاستفادة منها إلا بعد محاكمتها وتمييز ما كان منها في خدمة الاستعمار وما كان في خدمة الفكر.
ولعل من أهم ما قدمه هذا الرحيل هو موقف الأزهر الإيجابي الذي تعامل في الماضي مع المفكرين الأحرار بتهم الزندقة ومارس فيهم الإقصاء والنفي، وهو سلوك تورط فيه الأزهر مع علي عبد الرازق وتكرر مع فرج فودة ونصر حامد أبو زيد وآخرين، ولكنه هذه المرة ظهر في بيان غرد به شيخ الأزهر نفسه الشيخ أحمد الطيب حيث نعاه باحترام بالغ، وأثنى بوجه خاص على رسالته في تأسيس علم الاستغراب الإسلامي الذي رأى فيه دعوة لحوار الحضارات قائمة على قوة الحضارة الإسلامية ونديتها، ورفض صيغ الاستعلاء الحضاري التي مارستها أوروبا في سياق تفوقها المادي وجيوشها الاستعمارية.
سيبقى ما أنجزه حسن حنفي موضوع جدل كبير، ولكن الجانب الذي يتميز فيه حسن حنفي أنه أنجز مشروعه بيديه وكتب مدرسته بقلمه وقدمها على منصته في الجامعة، ثم جمعها في المراجعة الأخيرة وطاف بها في النعش ينثرها
على قاعات الجامعة وحدائقها ومكتبتها قبل أن يستكمل الرحيل.
محمد حبش