وائل السواح – الناس نيوز :
غادرنا حسّان قبل أسبوع واحد من الذكرى العاشرة للثورة السورية التي قام هو بدور متميّز فيها، دور اتصف بالحكمة والتوازن ورفض التطرف والعسكرة. غادرنا الآن ونحن في أمسّ الحاجة إلى توازنه وخطابه المعرفي…
ليس هنالك وقت مناسب للموت، ولكنه يأتي أحياناً في أسوأ الأوقات وأقلها مناسبة، فتكون الفاجعة. مات حسّان عباس. رحل في وقت نحن، السوريين، في أمس الحاجة إليه، وترك وراءه قضايا كبيرة وكثيرة تحتاج إلى مواجهة وتحتاج إلى حلّ.
هل تؤمنون بالحب من النظرة الأولى؟ أنا لا أومن، ولكن الحال مع حسّان كان مختلفاً. وقعت في غرامه من النظرة الأولى. كان ذلك في باريس عام 1992، وكان قد تخرّج حديثاً بشهادة الدكتوراه في النقد الأدبي. كان شابّاً مكتمل الرجولة والوسامة والدماثة، لفت انتباهي شارباه السوداون المعقوفان، وعمق عينيه، والهدوء الآسر في صوته.
“سأعود إلى سوريا”، قال لي ردّاً على سؤالي عن خططه المستقبلية. وفوجئت. بينما كان معظم السوريين يسعون إلى فرصة في الخارج، قرّر حسّان أن يعود إلى سوريا. وإلى سوريا عاد، مسلّحاً بالعرفة والصبر والدأب والإصرار على أن يبني شيئاً جديداً. في دمشق، رفض وزير التعليم العالي إعطاءه وظيفة في الجامعة، خاضعاً بذلك لأوامر المخابرات السورية التي لا رادّ لقضائها. ولعلّ في ذلك خيراً، فلم يتحوّل حسّان إلى موظّف في آلة الدولة التي سيطر الأسد على كلّ مفاصلها، بلّ ظلّ يغرّد ما أمكنه خارج هذه الآلة وضدّها.
سأفتقد في حسّان ثلاثة أشخاص: الأول هو المثقّف والناقد الأكاديمي الذي لم يبخل قطّ بمعرفته على الآخرين. أكاديمياً، علّم حسّان أجيالاً من غير العرب اللغة العربية والثقافة العربية في معهد لدراسات الفرنسية، وغرس فيهم حبّ سوريا والتعلق بها. والتقيت بعشرات الأشخاص في أوروبا الذين درسوا على يديه وأحبّوه واحترموه ولا يزالون يكنون له احتراماً كبيراً. وألّف عدداً كبيراً من كتب النقد، صدر آخرها قبل أيام فقط من رحيله، “الجسد في رواية الحرب السورية”. وكان يتناول في نقده النص من زوايا غريبة وجريئة وثورية.
واستغلّ منبر المعهد الفرنسي ليحوّله قاعة محاضرات ونشاطات معرفية للسوريين، وأسّس النادي السينمائي في أول إحياء مهم لتجربة النادي السينمائي في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي. كما أسّس، مع الرائدة النسوية اليسارية نوال يازجي منتدى سبق المنتديات كلّها، وكان رسولاً مبشّرا بربيع دمشق، حيث بدأ نشاطه قبل وفاة الدكتاتور، إذا جاز لنا استعارة تعبير رياض الترك. كان حسّان يعتقد أن الأساس في العمل في تلك الفترة كان بناء فكرة المواطنة وإعادة بناء المجتمع المدني باعتباره حجر الأساس لبناء الديموقراطية، فلا ديمقراطية بدون مبدأ المواطنة وبدون مجتمع مدني يراقب عمل الحكومات والأحزاب والسياسيين ويصوّب أخطاءهم إن وقعت. وخلال أقل من سنة كان لدى القائمين على المنتدى حوالى 400 اسم مشارك. وركز المنتدى على المناحي الثقافية ذات البعد العام. وبرز من بين المحاور التي قدمت في المنتدى محور “الثقافة والضمير في سورية”. ولعل تنظيم إدارة الجلسات كان أكثر تميزاً من المنتديات الأخرى، حيث أتيح للمحاضر وقت محدد، مع عدد محدد من المتخصصين بموضوع المحاضرة حيث يقدمون تعقيباتهم عليه، قبل أن يفتح الباب للنقاش العام.
أغلق المنتدى بسبب ضغوط الأمنية، ولكن نهاية المنتديات لم تحبط عزيمة المثقفين فبدأت مجموعات وأفراد منهم، كان بينهم عدد مهم من الشباب، باتخاذ مبادرات هامشية، أي بعيدة من الأطر المؤسساتية المحددة من السلطة. وفي كلّ من تلك النشاطات، كان أثر حسّان عباس بارزاً، كمؤسس أو مشارك أو داعم أو ناقد.
وسأفتقد في حسّان الناشط الذي لا تلين لعزيمته قناة. منذ عودته من باريس، انخرط في نشاط مدني لنشر فكرة المواطنة بين السوريين، وفي مطلع الألفية، عبّد 99 مثقفاً سورياً الطريق أمام مثقفين وسياسيين آخرين للعمل العلني، من خلال توقيعهم ما سوف يعرف في التاريخ السوري المعاصر باسم “بيان التسعة والتسعين”. وهناك موقعون كانوا مفكرين وأكاديميين وكتاباً وأساتذة جامعات، ولكن بعضهم الآخر كان سياسياً من أحزاب سياسية معارضة، وهو ربما ما أعطى البيان الشهير صبغة سياسية أكثر منها مدنية. ومع ذلك فقد كان هذا البيان الشرارة التي أشعلت الحريق. وكان حسّان أحد أربعة أشرفوا على جمع التوقيعات، في زمن لم يكن الإنترنت قد وجد في سوريا بعد، فكان عليه الانتقال من مقهى إلى مقهى ومن بيت إلى آخر، ليجمع توقيع هذا الكاتب أو ذاك المخرج. وفي حوار مطوّل بين حسّان وبيني في أيار/ مايو 2008، قال لي إن السلطة أُخذت بالبيان على حين غرّة، ولم تجدْ بدّاً من التسامح معه، ما أدّى إلى نوع من الانفتاح والحرية وقلّل من خوف الناس، وتساءل لماذا لم تفعل السلطة شيئاً فهي إما كانت ذكية ولديها نيات جيدة في مساعدة المجتمع المدني على تنشيط حيزه الثقافي أو أنها كانت تعتبره لعب أولاد.
وبعد انطلاق ثورات الربيع العربي، كان حسّان آلة عمل لا تهدأ، محاولاً تقصّي إمكان نقل الحراك إلى سوريا، وفي 5 شباط/ فبراير 2011، كنا، نحو 200 رجل وامرأة، نمشي في جنازة المخرج السينمائي الراحل عمر أميرلاي، حين اقترب مني وقال: “أتدري، قد تكون هذه هي المعارضة السورية بأكمها؟”. وبعدما وارينا عمر الثرى، غرز حسّان في تراب القبر علماً صغيراً لسوريا ما قبل البعث، وهو العلم الذي سيغدو سريعاً علم الثورة السورية ورمزها. وشارك حسان في معظم الاحتجاجات في دمشق التي شارك فيها مثقفون، وفي إحدى التظاهرات تعرّض لضرب مبرح من عنصر مخابرات، أدّى إلى كسر في ساقه، قبل أن يصيح به ساخراً: “اركض، اركض يا دكتور! دكتور ولا تعرف كيف تركض؟”.
وفي مطلع 2012، قام حسّان بأهم نشاطاته المدنية- السياسية، تأسيس الرابطة السورية للمواطنة. وشاركناه في التأسيس، نحن الثلّة القريبة من أصدقائه ورفاقه. كان بيننا صباح الحلاق والراحلة مها جديد، التي سبقت حسّان بأشهر قليلة فقط، والمحامي وسام جلاحج، وكاتب هذه السطور، وآخرون لا يزالون في سوريا، فلا أذكر أسماءهم. كانت رابطة المواطنة ثورة في الثورة. عملت على صُعُد شتّى مختلفة ومتداخلة، فدرّبت سوريين وساهمت في توعيتهم في مجالات مثل المواطنة والجندرة والمساواة وحقوق الإنسان والعدالة الانتقالية. وأصدرت الرابطة سلاسل من الكتب، في المجالات السابقة، فربط حسّان بذلك النشاط اليومي بالمعرفة.
ولكنّ من سأفتقد أكثر من الشخصين السابقين هو حسّان الصديق، حسّان الذي كنت ألجأ إليه – ومثلي كلّ أصحابه – ليل نهار إذا ما اعترضتني حاجة أو انتابني قلق أو استبد بي ضيق. كان حسّان مرشدي إذا عصف بي هوس وجودي أو سؤال فلسفي في السياسة، ودليلي إذا ما هجس في ضميري قلق أخلاقي. وكان درّة التاج في كلّ لقاءاتنا وسهراتنا الاجتماعية، إذا ما سهرنا في بيت حسّان وسلام، أو التهمنا القبوات في حقل بسّام وليلى في برزة البلد أو جمعنا طبق الكسكس الذي لا يبارى والذي تعدّه زهرة. وكان في كلّ يوم يطبّق ما كان يسمّيه في محاضراته “الكياسة المدنية”.
غادرنا حسّان قبل أسبوع واحد من الذكرى العاشرة للثورة السورية التي قام هو بدور متميّز فيها، دور اتصف بالحكمة والتوازن ورفض التطرف والعسكرة. غادرنا الآن ونحن في أمسّ الحاجة إلى توازنه وخطابه المعرفي الهادئ وقدرته على ضبط الجنوح كيفما اتجه بنا.
ولن أنتهي قبل أن أقول وبدون خجل، لنتعلم منه، إن حسّان من أسرة علوية تزوّج امرأة سنية وثار على النظام الدكتاتوري الطائفي ووقف ضدّ الأسلمة والعسكرة والشعارات الفارغة، وحاول أن يسخّر المعرفة في سبيل الثورة ويؤسّس بالتالي لثورة معرفية، نحن في أمس الحاجة إليها.
قال لي مرّة في حوار لي معه، إن للفعل الثقافي في سوريا المعاصرة “دوراً كبيراً جداً في تغيير الثوابت الاجتماعية التي أرستها سياسة حزب البعث، وبالتالي في خلق مجتمع جديد متحرر من هيمنة الرأي الواحد، ومن ضغط المؤسسة الحكومية. مجتمع مسؤول، يعتمد على نفسه، يحترم التعددية، ويتحرر من ثقافة الخوف. ومجتمع كهذا يستطيع أن يشكل أرضية مناسبة لبناء الديموقراطية.”
وداعاً حسّان. وداعاً يا صديقي! – عن صحيفة دراج الإلكترونية .