يتمثل العامل الأهم للتقدم بانعكاسه على البشر، والارتقاء بهم، فالتحضر لا يقتصر على جانب واحد، بل يشمل نواحي متعددة، ومن فرط غرائبه، لم يستثن الارتقاء في القتل، حتى بلغ مرحلة من التحضر، وفرت المتعة مع البراءة، والترفيه عن النفس.
في الحروب السابقة، مهما كان القتل نظيفاً، لا يعفي القاتل من الشعور بالذنب، يشهد عليه ما يتركه الانطباع الأخير في داخله لملامح العدو، قبل الإجهاز عليه، أو لحظات النزع المؤلمة، ربما كان شابًا بعمر القاتل، أو متزوجًا ولديه أطفال، لكن توفر المال للقادرين من رجال الأعمال أو كبار السياسيين، يسمح لهم بالتخلص من خصومهم باستئجار قاتل محترف، متخصص بالمهمات القذرة، لكنه لا يصلح للقتل بالجملة، وإنما للقتل الإفرادي، وربما لعدة أشخاص، بارتكاب مجزرة صغيرة، أو قتلهم بالتسلسل.
بخصوص القتل الجماعي، ليست الإبادة واردة، مهما جرى التخفي عليها فهي معرضة للانكشاف، مع أنه لم يتقادم الزمن على الإبادة في رواندا، ولم تستهلك كلية، ما زال هناك حكام يتمنون التخلص من نصف شعبهم على الأقل، لكن يصعب تمريرها من دون ضجيج إعلامي، واستنكار الأمم المتحدة. أي لا يجب تجاوز أعداد القتل الجماعي العشرات أو المئات، وربما الآلاف. ومن الممكن قتل الملايين لكن بالتقسيط، تلك من مهام الحضارة والتقدم.
اختصر التقدم التكنولوجي عمليات القتل الجماعي، إلى مجرد كبس أزرار، كانت بإلهام من الألعاب الالكترونية، بحيث بدت لعبة فعلاً، وحقيقية من ناحية أداء العمل على أفضل وجه، وذلك بالقصف من بعيد، حتى أن الطيار لا يرى من يقتل، مع توخي الدقة بقتل أعداد غير محدودة من البشر، تخضع للزيادة، وهذا عائد للحظ في اصطياد أكبر عدد ممكن، أو الأخذ بالاعتبار الزحام في سوق يمتلئ بالبائعين والشارين، أو سكان مختبئين في ملجأ، كما حدث في بغداد لدى قصف ملجأ العامرية 1991. من كثرة الضحايا استحال التأكد من إحصائية دقيقة لعدد الذين كانوا في داخل الملجأ، وكان يتسع لنحو 1500 شخص، استخرج منه نحو 400 جثة، أما باقي الجثث فلا وجود لها، تبخرت بفعل الحرارة الشديدة، بالتالي الأرقام المعلنة لم تكن صحيحة. وهكذا بكبسة زر استطاع الطيار قتل المئات من الرجال والنساء، كان من بينهم نساء حوامل، وأطفال، ورضع، وكبار في السن، وشبان وفتيات بعمر الورود… لم يقع عليهم بصره. لم يكونوا أكثر من هدف لم يخطئه.
ثمة أعداد هائلة من المدنيين، تم قتلهم دونما تأنيب ضمير، فالقاتل لم ير ملامحهم، ولا سمع صراخهم. اللافت أن هذا القتل لا يخلو من المتعة والتسلية، طبعاً من ناحية الدقة في التصويب، ما يحقق متعة لا تنتهي في وقتها، بل تستمر عندما يعرف أن ضربته أوقعت خسائر كبيرة في الأرواح، ودمرت مثلًا مستشفى بما فيها من مرضى وجرحى وأطباء وممرضات… ثم إحراز وسام أو تنويه من رؤسائه.
مع بداية القرن الحالي، أصاب الترقي في القتل نجاحًا، فقد تطور وبات عن بعد أكبر، بحيث أصبح أبعد بما لا يقاس، باستخدام تكنيك الضربات الجوية الموجهة عن بعد ساحق، وذلك لمحاربة الإرهاب. مهما كان موقع الهدف في أفغانستان أو اليمن أو السودان… المواقع كثيرة، طالما الإرهاب منتشر في العالم. أما الهدف المعادي، فربما كان باصًا يحمل ركابًا المفترض أنهم إرهابيون، هناك صاروخ يأخذ أوامره من قاعدة جوية ربما في صحراء تقع في أمريكا، فيصيب الباص، من دون أن يعرف الرجل الذي كبس الزر، هل الركاب إرهابيون فعلاً ذاهبون لتنفيذ عملية إرهابية، أو ركاب يحتفلون ويغنون ذاهبون لحضور عرس، وهل هناك أطفال أو نساء أو شيوخ؟ القاتل لا يعرف فهو لا يراهم، إنهم مجرد نقطة على لوحة إلكترونية، حتى أنه لا يعرف إذا كان الباص قد صادف في طريقه منازل أو تجمعاً في سوق… المهم أن العملية نفذت بإتقان حسب المعلومات الاستخباراتية. على كل حال لن تزيد الأخطاء عما حدث في أفغانستان بتدمير منزل تعيش به عائلة أحد قادة طالبان، أو تفجير موكب جنازة.
ما يدعو للاستغراب بعد هذا التقدم، أنه بينما العالم يترقى في ممارسة القتل، يشهد انحدارًا طوال عشر سنوات في سوريا إلى حد العودة إلى العصور الهمجية، فالقتل يتم وجهًا لوجه، يمارس بالرصاص والسكين والساطور، أو قضيب معدني، أو دعسًا بالبوط العسكري، يبرره تشفي القاتل بالضحية الأعزل المقيد المطمش العينين، ويبلغ التشفي مداه بإطالة فترة التعذيب قبل الإجهاز عليه، يقوم به ما يطلق عليهم وصف: الجلادون. يستمتعون بالذبح ونشر العظم وسلخ الجلد، وقد تتفتق أذهانهم عن ابتكار أنواع غير المتعارف عليها.
أما القتل بالجملة، فبالقصف بالطيران، والتسديد بدقة بالعين المجردة لئلا يخطئ، وهو متوفر بأمان لعدم وجود مضادات للطائرات، فقد امتنع الغرب عن تزويد الجيش الحر بهذا السلاح الدفاعي، وتُرك المدنيون تحت رحمة القصف الإنساني لنظام مجرم.
أحجم النظام في سوريا عن القتل الإلكتروني، ولم يكن لتخلف الاستبداد عن ركب حضارة القتل، وإنما لكلفته العالية، فالصاروخ الواحد يكلف 68 ألف دولار، مع أن العمل كان جاريًا لرفع أعداد الضحايا وحجم الدمار، ولا يجوز التخلف في مضمار القتل بالجملة، لكن لماذا هدر المال، إذا كان الأهالي لا يساوون شيئاً؟ بينما البراميل المتفجرة زهيدة الثمن، هذا إن كان لها ثمن، تحقق القتل بكلفة تكاد تكون لا شيء، لا أكثر من مواد صلبة من الخردة. كان في إسقاطها في سوق شعبي مزدحم، أو فوق الناس المتجمعين أمام فرن، أو مستشفى يمتلئ بالجرحى والمرضى، ما يشفي الغليل، بل والتشفي، بترتيب ضربتين متلاحقتين، يهرع الناس عقب الأولى لإنقاذ الجرحى وتفقد أقربائهم، فإذا بالضربة الثانية تحصد المزيد من القتلى.
في كلا الحالين، لا التقدم أو التأخر الحضاري، ولا الديمقراطيات أو الدكتاتوريات، توانيا عن القتل، وافتقد كلاهما في هذا المجال المميت، أي حس أخلاقي، إن عدم الشعور بالإنسانية، لا يعني الا أن القتلة ليسوا بشرًا.
فواز حداد