حاوره – أحمد عزيز الحسين – الناس نيوز :
ولد محمود عجان في اللاذقية في عام 1916لأسرة متدينة ورث عنها حب الفنّ، وأولع بالموسيقا عزفاً وتاريخاً وعلماً إلى أن أصبح علَماً فيها جميعاً، وعملَ في بداية حياته مدرِّساً لمادة التربية الموسيقية، وأسّس في عام 1945 النادي الموسيقي، وشارك في الحياة الثقافية الموسيقية بما كان ينشره من مقالات، أو يلقيه من محاضرات، أو يحييه من أماسٍ وحفلات في النادي الموسيقي الذي كان يشرف عليه في مدينة اللاذقية.
أصدر كتابه الأول بعنوان “تراثنا الموسيقي” عن دار طلاس بدمشق ، ويشتمل على دراسة موسعة في الدَّور والصيغ الآلية العربية لحناً وقالباً، أما كتابه الثاني ( الليل والعين في التراث الموسيقي والشعري) فصدر عن دار المدى بدمشق في عام 2001.
كرّمه معهد الدراسات الشرقية بموسكو ومعهد تشايكوفسكي للموسيقا في عام 1957، ومنحته وزارة الثقافة السورية عام 1995وساماً تقديراً لنشاطه ودوره البارز في إحياء التراث الموسيقي العربي، وأعدت فيماً وثائقياً عن حياته وأعماله، كما اختارت إذاعة ” صوت أمريكا “إحدى مقطوعاته الموسيقية مقدمة لنشرة الأخبار فيها عام 1952، وكلفته مؤسسة دانمركية بوضع ألحان عربية للفيلم الدانمركي (مرفأ اللاذقية ) .
ترك الأستاذ عجان مجموعة من نوتات الأدوار والموشحات دوَّنها بنفسه، وله الكثير من القطع الموسيقية الوصفية، نذكر منها : بطولة، واستقبا ، وناديا، ومن وحي الأندلس، وليل بلا أمل .
يقول الباحث الموسيقي السوري زياد عجان عنه :”تميز أسلوب محمود عجان بالتجديد والابتكار مع الحفاظ على القالب الموسيقي، وتعتبر السماعيات التي ألفها فتحاً جديداً في تلحين السماعيات؛ لأنها تعطي الجملة الموسيقية المكانة الأولى، وتوظف الإيقاع لخدمتها، في حين كانت المؤلفات القديمة ( العربية والتركية ) تعطي الجانب الإيقاعي دوراً أكبر”.
والمقابلة التالية خلاصة حوار جرى في منزل الأستاذ عجان بمدينة اللاذقية في عام 1993، ودام خمس ساعات، وقد حضر طرفاً منه الصديق الدكتور بسام حمود الأستاذ في كلية الهندسة بجامعة تشرين في اللاذقية، ورغب الأستاذ عجّان بعد انتهاء الحوار والاطّلاع على صيغته النّهائية أن يبقى دون نشر حرصاً على مشاعر بعض من تطرق إليهم في الحوار، وقال فيهم رأياً قد يغضبهم أو يطال من شهرتهم ؛ فاستجبت لرغبته، ووضعت الحوار في درجي إلى أن علمت أن الأستاذ عجان غادر دنيانا، فغدا الحوار في هذه الحالة ملكاً للتاريخ، وصار من الواجب نشره حرصاً على التعرف إلى أحد أعلام موسيقانا العربية، والاطلاع على آرائه في تاريخ هذه الموسيقا، ونهضتها، ونكوصها. وكان سؤالي الأول :
– أستاذ عجان ! برأيكم : ما دلالة تزعُّم المشايخ للحركة الغنائية والموسيقية في مصر ، وما آثار ذلك في طبيعة هذه الحركة ، وما الأسماء التي تنمذجها ؟
* عجّـان : هناك علاقة وثيقة بين انتشار الطرق الصوفية وتطور فن الغناء والموسيقا العربية؛ إذ كان المشايخ يردِّدون القصائد والموشحات الدينية خلال حفلات أعياد عيد المولد النبوي الشريف والمناسبات الدينية الأخرى، وكانوا أحياناً هم الذين يلحنونها ويدَّعون أنهم سمعوها ممن سبقهم، حتى لا يُتَّهموا في دينهم، وحرصاً منهم على قدسية الدين وعدم الإساءة إليه بما ساد فن الغناء الرخيص آنئذٍ، وممن برعوا في هذا المجال الشيخ إسماعيل سكّر الذي عاش في العشرينيات، ولم يترك تسجيلات بصوته، والشيخان : علي محمود ودرويش الحريري. وقد كان الشيخ علي محمود متميزاً ومجيداً في أداء القصائد والموشحات الدينية ، وخلّف لنا عدداً من القطع الرائعة، ومنهم أيضاً الشيخ سيد درويش ( الذي توفي في عام 1923)، وكان عبقريَّ زمانه في تلحين الأدوار، وقد أدى بعضها بصوته الأجش العريض فأطرب مستمعيه بمهارة أدائه، وروعة ألحانه، والشيخ أبوالعلا محمد الذي كان أفضل من غنى القصيدة بعاطفة حقيقية في النصف الأول من القرن العشرين. ويمكن أن نذكر هنا الشيخ محمود صبح ( ت 1941) الذي غنى عدداً من الأدوار الرائعة من أشهرها : غرامك يا جميل فضاح ( على مقام الراست )، وكذلك
زكي مراد ( والد المطربة المعروفة ليلى مراد) الذي كان بارعاً في غناء الأدوار، والشيخ يوسف المنيلاوي الذي اشتهر بإتقانه للغناء العربي القديم عموماً، والشيخ سيد
الصفتي الذي كان مؤدياً ممتازاً، وإن لم يصل إلى مرتبة زكي مراد، وعبدالحي حلمي (خال المطرب المعروف صالح عبدالحي ) الذي كان مجيداً في غناء القصائد وعادياً في
أداء الأدوار، والشيخ زكريا أحمد نفسه الذي كان مؤدياً ممتازاً، وإن لم يصل إلى درجة الاحتراف، وقد بلغ من إعجاب المستمعين الذواقة به أنهم كانوا يفضلونه على المطربين المحترفين ؛ لأن علمه بالموسيقا وفن الأداء ساعده على أن يؤدي بحرفة وبراعة. ومعظم ألحان الشيخ زكريا عربية صرف، وقد ترك لنا على حد علمي خمسة وعشرين دوراً من أجملها : هوَّدهْ يخلصْ من الله، القوي يذل الضعيف، يا قلبي كان مالك، ياللي تشكي من الهوى، إمتى الهوى يجي سوى، وغير ذلك .
وقد تابع الدكتور صبري النجريدي خطا الشيخ أبوالعلا محمد في تلحين القصائد د، وكان امتداداً لمدرسته العظيمة، وترك لنا عدداً من القطع الموسيقية الرائعة، غنت أم كلثوم ثلاث عشرة أغنية وطقطوقة منها : أنا على كيفك ، وقصيدتا : مالي فتنت بلحظك الفتاك، وكم بعثنا مع النسيم سلاما؛ غير أن النجريدي لا يمكن أن يُقارَنَ بالقصبجي الملحن العملاق الذي جدد في الدور والقصيدة المتحررة التي دُعِيَت بـ ( المونولوج )، ومن أفضل ألحانه : إنْ كنْتْ أسامحْ وأنسى الأسية، وسكت والدمع تكلّم، وموّال غنته أم كلثوم أيضاً هو: ” الليل أهوطال ” ومونولوج ” يا غائباً عن عيوني “، وقد غنت الأخير عام 1930. وقد مهر القصبجي في العزف على العود، وبرع فيه أكثر من عبدالوهاب وفريد الأطرش وكثيرين من المعروفين، وأمضى شطراً كبيراً من حياته في فرقة أم كلثوم .
وممن برعوا في أداء الأدوار أيضاً صالح عبد الحي، ( واسمه الحقيقي صالح عبد الجواد، ولد سنة 1896، وتوفي بتاريخ 4أيار 1962)، غير أن تظليله متوسط، وفي رأيي أنه كان يوازي بمهارته زكي مراد، ويمكن أن نضيف إلى هؤلاء جميعاً الموسيقار محمد عبد الوهاب الذي غنى ثمانية أدوار، منها أربعة معروفة هي : أحب أشوفك كل يوم، القلب يا ما انتظر، حبيب القلب، عشقت روحك، وأربعة أُخَر غير معروفة للمستمع العادي هي : يا ليلة الوصل، لو كان فؤادك يصفى لي، سلامة القلب ( وهو دور ليس واضحاً في الشريط المتوافر بين أيدينا )، وهناك دور لم يُقَيَّض لي سماعه قط هو : اللي يتهنى ويفرح اللي نال، وهناك مطرب لبناني اسمه محيي الدين بعيون، ساهم في غناء القصيدة والدور، إلا أنه كان متوسط الموهبة والأداء، وقد توفي عام 1930 .
وفي رأيي أن مطربي الأربعينات والخمسينات فما بعد ممن لم أذكر؛ لم يستطيعوا تطوير الدور؛ فتراجع وانزوى إلا لهواة الطرب الأصيل ، كـما أن ملحني الستينات كـ ( محمد الموجي، وكمال الطويل، وبليغ حمدي، ومحمود الشريف) عاشوا على فتات موائد المتقدمين من الملحنين كسيد درويش و أبي العلا محمد و زكريا أحمد وغيرهم .
– إن الشيخ علي الدرويش أثّر في المسرح الغنائي الذي قدّمه الشيخان أحمد أبوخليل القباني و سلامة حجازي ، وأن له فضلاً على الحركة الموسيقية والغنائية في مصر . فما رأيكم في ذلك ؟
* عجّـان : لا علاقة للأستاذ الشيخ علي الدرويش بالمسرح مطلقاً؛ فهو عالم في المقامات الموسيقية والنظريات والإيقاعات، وأما من أفاد حركة التمثيل فهو أحمد أبوخليل القباني الدمشقي، الذي رحل إلى مصر عام1884. وقد كان الشيخ سلامة حجازي يرسل بعض الأشخاص إلى فرقة القباني للوقوف على أسرار الفن بشكل شامل ثم نقل المعلومات اللازمة إليه. وقد عُرِف الشيخ علي الدرويش ( الحلبي ) بعلمه في فن الموشحات، ويقول الذين عاصروه، ومنهم القصبجي، إنه كان عالماً في ذلك، وإن لم يكن ملحّناً تماماً ، وقد ترك لنا ما يُقارب الأربع عشرة قطعة موسيقية، منها أربع قطع ممتاز. والشيخ علي الدرويش ، فضلاً عن ذلك، كان مغنياً ممتازاً إلا أنه لم يترك تسجيلات بصوته، كما يقول معاصره وابن بلده عبداللطيف النبكي، وقد نشر ولده نديم الدرويش بعضاً مما تركه من قطع مُنّوَّطة، وبقي القسم الآخر مخطوطاً، وفي رأيي أن ألحانه عادية وليست متميزة بالموازنة مع نتاج معاصريه من الملحنين المصريين.
وأما الشيخ علي الدرويش فقد ولد في عام 1884 كما يقول بعض مؤرخي الموسيقا العربية، وفي رأيي أن ولادته تمت في عام 1847 أما وفاته فكانت في 26 تشرين الثاني ( نوفمبر) عام 1952. وليس هناك من صلة بينه وبين الشيخ أحمد أبوخليل القباني كما يزعم الدارسون . وأصل الشيخ علي من “مصر” ؛ إذ قدِمَ جدّه “علي” مع حملة إبراهيم باشا إلى سورية سنة 1931، وبقي فيها، ووُلِد له في سورية “إبراهيم” والد الشيخ علي، وعندما شبَّ الفتى علي بارح سورية إلى تركية؛ حيث تعلّم في مدرسة “دار الألحان” أصول فن الغناء، وأخذ الموشحات من التكية المولوية، ومنها اكتسب لقبه “الدرويش ” شأنه في ذلك شأن الشيخ سيد درويش الذي كان يُعرَفُ بـ “سيد البحر” قبل أن يكتسب لقب ” الدرويش” لأن اسم والده ” درويش البحر”، وبعد أن أكمل الشيخ علي دراسته في تركية سافر إلى الهند ومصر، وأفاد مما سمعه من فنون النغم والإيقاع في هذين البلدين؛ كما سافــر في عام 1912إلى منطقــة ” المحمـرة ” عنـد الأميـــــر” خزعل بن جابر”.
وقد كان الشيخ علي الدرويش عالماً كبيراً إلا أنه كان بخيلاً وحريصاً على علمه، ولم يلقنه لأولاده أو لتلاميذه في سورية، وقد روى لي ولده “نديم” أن حصيلته من علم الموسيقا كانت ذاتية ولا فضل لأبيه فيها. ولذهاب الشيخ علي إلى مصر قصة جديرة بأن تروى؛ إذ كان مواطنه “سامي الشوّا” أمير آلة الكمان في ذلك الحين بمصر، وقد شجّع الحكومة المصرية على استقدامه ؛ فأرسل المعهد الملكي الموسيقي في القاهرة يستدعيه من خلال رسالة أرسلتها الحكومة المصرية إلى الحكومة السورية؛ فردت الحكومة السورية بأنها لا تعرف عالماً موسيقياً في سورية يُدعى “علي الدرويش”؛ عندئذٍ قدّم سامي الشوا للحكومة المصرية معلومات مفصلة عن حياته ومكان سكنه في حلب؛ فدخل عليه شرطي، وكان فقيراً معدماً يقتعدُ حصيراً في غرفة عارية من الأثاث؛ فخاف الشيخ علي ، وظن في الأمر سوءاً؛ فطمأنه الشرطي بأنْ لا ضير من مجيئه ، وأن الحكومة المصرية تطلب إليه السفر حالاً إلى مصر، وأعطاه شيكاً بمبلغٍ كبير من الجنيهات؛ فلبى رغبة المعهد الملكي الموسيقي وسافر. وعندما وصل إلى مصر كان يحمل معه مخطوطاً من تأليفه في فن الموسيقا والإيقاع؛ فأعطاه لإدارة المعهد والموسيقيين المعروفين في ذلك الوقت كي يفيدوا منه وكان بينهم القصبجي، وقد قال لي القصبجي: إنه خجل من نفسه بعد أن اطلع على مخطوطة الشيخ الدرويش، وتين أنه جاهل في مجال الإيقاع والموسيقا بالموازنة مع ما يعرفه الشيخ علي، كما أحس بالشعور نفسه زملاء القصبجي الآخرون؛ ولهذا طلبوا منه أن يعلِّمهم ما يعرف من أمور يجهلونها من خلال التدريس في المعهد الملكي الموسيقي، وهكذا كان؛ إذ بقي الشيخ علي يدرّس هذه الأصول مدة تسع سنوات إلى أن وصل خبره إلى مستشرق في ذلك الوقت هو البارون رودولف ديرلانجي؛ فأرسل يستدعيه ويستضيفه؛ فأجاب طلبه، وبقي يدرّس التونسيين علم الموسيقا وفن الغناء، وقد لحّـن هناك عدداً من القصائـد والموشحـات التي كان قد غناها المطــرب المشهــور “زرياب”، ثم ما لبث أن غادر تونس إلى العراق ومنه إلى سورية حيث استقرّ وعمل موظفاً في إذاعة حلب إلى أن توفي .
– يلاحظ الدارس والمتابع أن حلب تفرّدت عن غيرها من المدن السورية بلون خاص من الغناء هو الموشحات والقدود ، وأن هناك هوِّية واضحة للتراث الغنائي الحلبي ، وأسماء تمثلها على صعيدي التلحين والأداء من بينها كما تفضلتم الشيخ علي الدرويش ، وقد نستطيع أن نضيف إليه أسماء أخرى على ما أظن . إلامَ يعود هذا التميز برأيكم ، ومن هم الذي يجسدونه إلى الآن ؟
* عجّــان : في ظني أن تميُّز حلب عن غيرها من المدن السورية عائد إلى أنها كانت مركزاً تجارياً عالمياً في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وحلقة اتصال بين الشرق الأقصى وأوربا، وكانت تضم خانات ذات طابقين، يُخصّص الأول للدواب أما الثاني فللمسافرين إلى تركيا أو القادمين منها. وقد حدث اختلاط وتزاوج بين الحلبيين والأتراك، وكان الحلبيون عندما يؤمون اسطنبول والمدن التركية الأخرى يستمعون إلى الغناء التركي المتأثر بدوره بالغناء العربي؛ وقد أفادوا مما سمعوا؛ غير أنهم لم يقفوا عند مرحلة التأثير أو التقليد بل تجاوزوها إلى أن استطاعوا أن يجعلوا لأغنيتهم طابعاً خاصّاً من خلال إدامة التجربة والمران والمثابرة. وقد بدأت حلب تنزاح عن سدّة الغناء والموسيقا العربية مع افتتاح قناة السويس عام 1869، ويكاد الغناء عند الحلبيين ينحصر في مجال القصائد والموشحات الدينية والعادية، وقد برع منهم في هذا المجال كثيرون، بينهم كما قلنا الشيخ علي الدرويش الذي ثقّف نفسه بنفسه، إلا أنه لم يؤثر في التراث الغنائي الحلبي لأنه لم يحرص على أن يتتلمذ عليه أحد، ومنهم فيما بعد أسعد سالم، وله دور عنوانه ” كان لي فين ” على مقام البيات، ومحمد النصّار، وبكري الكردي، وأحمد الفقش، ومحمد خيري، وصباح فخري، وجان شبابي، وعبدالقادر حجار، وهو ملحنٌ ممتاز، وعبدالرحمن المصري، إلا أنه لم يترك آثاراً مسجّلة بصوته، وبكري الكردي، وله دور بعنوان ” القلب مال للجمال “، وقد غناه صباح فخري، ونديم الدرويش، وله دور بعنوان ” يوم الوداع يا ما جنيت “، وعبد الرحمن مدلل ، وله موشحات ودور واحد بصوته هو ” كل ساعة تمر بي ” من كلمات محمود كحيل على مقام الزنجران، إلا أن يد العبث امتدت إلى آثاره فأتلفتها.
والحلبيون عموماً مقلون في تلحين الأدوار ممتازون في تلحين الموشحات وأدائها، وأفضل المطربين الحلبيين في رأيي صباح فخري، وهو شخص موهوب ومثقف وله شخصية قوية، كما أنه من الأساتذة الذين احترفوا الغناء وأجادوا فيه، إلا انه ضعيف في التظليل، وتفتقر أغانيه إلى العاطفة والحياة، كما أنه ممن استجابوا لرغبات الجمهور؛ إذ يعمد إلى قطع الدور أحياناً في وسطه ليغني موالاً أو يرقص! ! وهذا في رأيي لا يجوز؛ لأن للدور قدسية ينبغي أن تُحترم وتُصان. أما شادي جميل فلا يُعدُّ مطرباً بالمقارنة مع صباح فخري، وكذلك لا أهمية تُذكر لـ”صبري مدلّل “. ومن الذين ساهموا في الأغنية الحلبية والسورية عموماً ميادة حناوي، وهي مطربة مجيدة بالمقارنة مع مثيلات جيلها من السوريات أو العربيات، وقد قيِّضَ لي أن أستمع إليها تغني في جلسة خاصة مع أختها “فاتن حناوي”قبل أن تحترف؛ فأعجبت بأدائها ولا أزال، ويبدو أن لعائلتها دوراً في صياغة ذوقها الفني؛ فوالدتها السيدة “عدويّة”متذوقة لفن الغناء، ومتابعة له، وحافظة لفنونه، فضلاً عن أن لها صوتاً جميلاً مطرباً.
– إذا عدنا أستاذ عجان إلى أحمد أبوخليل القباني ومسرحه الغنائي مرة أخرى، فماذا لديكم في الذاكرة من أخبار عن تجربته في سورية ومصر، وما قيمة هذه التجربة فنياً ؟
* عجّــان : من المعروف أن الشيخ أحمد أبوخليل القباني نجح في المسرح الغنائي، وأن المشايخ ضايقوه، وأن الشيخ سعيد الغبرة ووالي دمشق كانا السبب في رحيله إلى مصر، ومعلوم أيضاً أن مواطنه وصديقه التاجر الثري “سعدالله حلابو”أرسل إليه باخرة خاصة لتقله إلى مصر مع فرقته بعد أن وافق على الهجرة إليها، وعندما وصل إلى القاهرة مع اثنين وخمسين ممثلاً هم أعضاء جوقته الغنائية؛ قوبِل بالحفاوة والترحاب ، وقدّم عرضاً مسرحياً غنائياً في اليوم الثاني لوصوله، وقد بلغ من شهرته في ذلك الحين أن المطرب المشهور عبده الحامولي غنى في بعض مسرحياته الغنائية، كما منحه الخديوي دار الأوبرا ليقدم على مسرحها عروضه مجاناً لمدة ستة أشهر، فضلاً عن أن موظفاً معروفاً اسمه ” عبدالرزاق بك عنايت ” بنى له مسرحاً خاصاً، وقد قام بعد ذلك برحلة إلى شيكاغو مع اثنين وعشرين ممثلاً من أعضاء فرقته، وقدم هناك عروضاً مسرحية غنائية لمدة ثلاثة أشهر؛ غير أن الحساد ما لبثوا أن أوغروا صدر الخديوي عليه؛ فصادر أملاكه، ومنعه من متابعة نشاطه؛ فيمم وجهه شطر الأستانة يشكو للسلطان عبدالحميد الظلم النازل به؛ فأنصفه السلطان وأعاد إليه أرزاقه، وسمح له بالعودة إلى المسرح مرة أخرى.
وللقباني ستون عملاً مسرحياً غنائياً من تأليف، وقد أفاد من أحمد بن عقيل الذي علمه رقص السماح . والقباني، كما هو معلوم، لقب عرف به؛ إذ اضطر بعد عودته إلى دمشق محارباً من قبل الخديوي والحساد في مصر أن يشتغل في مهنة القبان إلى أن مات بالطاعون ميتة مأساوية، وأما لقبه الأصلي فهو أحمد أبوخليل ” آقبيق ، وهي كلمة تركية تعني ” الشارب الأبيض”، ومن أقربائه الشاعر نزار قباني وصباح قباني .
– ظهرت السيدة أم كلثوم بعد منيرة المهدية وفتحية أحمد ، ولا تزال إلى الآن سيدة الغناء العربي القديم فعلاً ، وقد جاءت بعدها مجموعة من المطربات المتوسطات الموهبة والأداء ، فما تقويمكم للأصوات النسائية العربية بعد أم كلثوم ؟
* عجّــان : ظهرت منيرة المهدية قبل أم كلثوم، ودخلت في حربٍ خفيةٍ ومعلنةٍ معها بعد أن كثر معجبوها، والتفّ حولها الناس، وكانت تعمد إلى الكيد لها في الحفلات العامة؛ إلا أن ذلك لم يصرف الناس عن الإعجاب بالمطربة الشابة التي استطاعت أن تخطف الأضواء من سلطانة الطرب آنئذٍ. وما تركته منيرة المهدية من تسجيلات على الأسطوانات يسيء إلى صوتها، ويقدِّم عنه فكرة مغلوطة. وقد غنت المهدية في الإذاعة المصرية بعد ظهورها عام 1934، كما مثلت وغنت في فيلم الغندورة الذي لحّن أغانيه الموسيقار داوود حسني. وصوت المهدية جميل، ومن الأفضل في رأيي سماعها من خلال أغانيها التي تمتلكها الإذاعة أو يتضمنها الفيلم المذكور. أما فتحية أحمد فصوتها أحلى من صوت المهدية، ومن أجل الأدوار التي غنتها: ” يادي الغرام يادي الدّلع”، وقصائد: والله لا أستطيع صدّك، أماناً أيها القمر المطلّ، كم بعثنا مع النسيم سلاما، خطرت وورد الروض بين يديها ( وهو من تلحين النجريدي) ، بلِّغوها إذا أتيتم حماها، أنا الحبيبة صدقني ( من تلحين القصبجي ) ، كتمت حبك ( من تلحين القصبجي أيضاً ) .
ومن المطربات المجيدات اللواتي ينبغي سماعهن نجاة علي، وإن كانت أقل شأناً من أم كلثوم وفتحية أحمد، ومن أجمل أدوارها : يا قلبي ساير حسنك، من تلحين داوود حسني، ودور “الحسن الجميل ظاهر للكل”. ومنهن كذلك نادرة الشامية، وهناك روايات متعددة في أصلها، فمنهم من يقول: إنها لبنانية، ومن يرى أنها سورية، ومنهم من ينسبها إلى مصر أو يزعم أنها أرمنية، وقد سافر والدها إلى أميركا، وتركها صغيرة في حضانة إحدى قريباتها. وصوت “نادرة” من الأصوات الحلوة، وقد أتيح لها السفر إلى مصر في عام 1928، ومثلت هناك وغنت في فيلم ” أنشودة الفؤاد “، ولها عدة أدوار جميلة .
ومن الممكن أن نذكر من المطربات المجيدات “ملَك”، واسمها الحقيقي زينب الجندي، وقد نجحت في مصر، وشاركت في عدة أوبريتات غنائية، ولقبت بـ”مطربة العواطف. وما تركته من أسطوانات يدلل على أن صوتها كان عادياً وليس متميزاً كمن سبقها من المطربات .
– لكم رأي معروف في تجربة فريد الأطرش الغنائية، وفي الموازنة بينه وبين عبدالحليم حافظ ، فهل يمكن أن تسمعونا هذا الرأي ؟
* عجّــان : يمثل فريد الأطرش نموذج المغني الذي يحتفي بالألم والمعاناة، ويغني خيبة الأمل والذل، ويشجع على التشاؤم والانصراف عن الحياة، ومع أن صوته أجمل من صوت عبدالحليم، إلا أن عبدالحليم أفضل منه في رأيي ككل، لأنه غنى للثورة والفرح والحياة، ونوَّع في أغانيه، ولم يسجن نفسه في إطار ولون واحد من الغناء كما فعل فريد، والموسيقا في رأيي ينبغي أن تحفّز الإنسان على التضحية والبطولة، وتخلق في نفسه روح المقاومة والتفاؤل والفرح والبهجة، بخلاف ما تخلص إليه أغاني فريد عموماً.
– أخيراً، ما رأيكم بما قدمه الرحابنة للتجربة الغنائية العربية من الناحيتين الشعرية والموسيقية ؟
* عجّــان : في رأيي أن الرحابنة أوصلوا الغناء العربي إلى قمة سامقة بما أضافوا إليه من تجديد وتنويع، فضلاً عن أنهم تعاملوا مع الغزل بروح جديدة، وابتعدوا عن الغزل المنكسر الطافح بالاستسلام والخنوع، وقالوا شعراً جديداً فيه احتفاء بالطبيعة والإنسان، ودعوة إلى الفرح والعمل وروح المقاومة، كما نوَّعوا في موضوعاتهم إلا أنهم سجنوا فيروز ضمن لونٍ واحد من الأداء لم تبارحه إلا نادراً، ولم يشجعوها على التنويع في الأداء؛ ولهذا افتقر أداؤها إلى “التظليل” مما جعلها تنجح جماهيرياً وتضعف فنياً؛ لأنها تؤدي كل الموضوعات والأشعار بلونٍ واحد من الأداء، وروح واحدة لا تنوع فيها، وفي رأيي أن بداياتها كانت أفضل مما انتهت إليه؛ لافتقار أدائها إلى التظليل كما قلنا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أجرِي هذا الحوارُ منذ 28 عاماً، ونُشِر في مجلّة ( الرّافـد– الشّارقة) قبل عقدين من الزّمن، ويُعادُ نشرُه في صحيفة ” النّاس نيوز ” الأسترالية الإلكترونية ، احتفاءً بالأستاذ عجان، وما مثّله في حياتنا من قيم وجدانية وفنيّة وروحيّة بازغة.
* ناقد سوريّ