[jnews_post_author ]
بين ايديكم مجموعة مبعثرة من ذكريات حلبية عشتها بين سنة 2000 وسنة 2006، فيها الكثير من الحقيقة والبعض من الخيال. من ترد أسماؤهم فيها هم شخصيات حقيقية ومن لا ترد أسماؤهم فيها هم اشخاص حقيقيون. ليست ذكريات حميمية خاصة بل فيها ما يعني العموم لأنها مرتبطة بأحداث وهموم تشارك فيها أهل المدينة خصوصاً وأهل المنطقة عموماً في حقبة زمنية محددة.
*****
منذ عقدين أو أكثر، وكنت مغادراً مطار حلب “الدولي”، حيث تفوح رائحة الفساد من بابه إلى محرابه، عزمت على أن أخصم الشر وألا أتدخل بما لا يعنيني، وأن أنسى دون كيخوت ومغامراته التي تقمصتها في شبابي لوهلة لأن الهدف الأسمى ذاك اليوم كان هو المغادرة إلى باريس بعد سنة حلبية صعبة. وبمجرد الوصول إلى باب المطار، ظهرت أعداد كبيرة من المتسكعين الأمنيين والذين تفوق أعدادهم أعداد المسافرين أنفسهم. فمن كل بستان زهرة، أو من كل فرع غصن أو عنصر. كان وجود هؤلاء العناصر متعلقاً أساساً بتسهيل سفر “المحاسيب” والأصحاب أو المعلم وأولاده أو من لاذ بهم. أما أمن المطار فهو برعاية صورة عملاقة يجتمع فيها ثلاثة من أفراد الأسرة الحاكمة وكأنهم في دعاية لنظارات الشمس “رايبان” تشعرك بأنك، وحتى مغادرة الأجواء، تبقى تحت رحمة نظرات ليست كالنظرات لأن العدسات السوداء تغطيها ولا يمكنك أن تعرف أو تفهم توجهاتها.
تبدأ عملية التحريض والاستفزاز بعد أن يرمي بك سائق سيارة الأجرة أمام الباب ويتركك مسرعا، وبالكاد أن تكون قد غادرته ليقي نفسه من دفع الجعالة التي يفرضها أصحاب اللون الخاكي ومن شابههم من المدنيين، فتدخل قاعته المزدحمة بالمسافرين الضائعين مع أنه لا يوجد سوى مغادرة واحدة لطائرة يترقب عناصر الخدمة الأمنية والأرضية والجوية والجمركية دسمها منذ الظهيرة. وتبدأ باجتياز الحواجز وكأنك في اختبار أولمبي حيث يمكن لأي منها أن يعيدك إلى مسقط حذائك، لمجرد هنّة صغيرة أو غياب ورقة رقيقة، أو أن وجهك لم يعجب القائم على المقام في صباحه المتجعد كتلافيف سيجارته.
أخطر المراحل هي اجتياز نقطة الهجرة والجوازات، فالعنصر لا ينظر في وجهك ليتأكد من مطابقته للصورة، بل هو يفلفش الجواز بحثاً عن الفرصة الثمينة التي ستسمح له بأن ينقضّ عليك كالضبع الجائع، محاولاً استدرار ما تيسر من جيبك أو جيب الذي خلفّك. وتبدأ الملاحظات حول كتابة الاسم، واسم الأب واسم الأم، ويكرر مراراً سؤاله عن مكان سكنك، وعندما تفشي له بأنك من سكان حي السبيل، فقد وقعت في الفخ المنصوب، فأنت من المؤكد من أبناء الذين لديهم ما ينقدون الساهر على أمن الوطن والذي يذود عن حدودها، ما يسمح له بشرب فنجان قهوة الصباح ليصحو من غفلته العميقة المتأثرة بغفلة مبادئ الحزب القائد. وبعد أن يفهم أنك لم تفهم، فسيصرح لك بالفم الفارغ إلا من الأسنان الصفراء الملوثة بدخان الحمراء الطويل، فيقول لك يا ابن السبيل لماذا لم تأتني بصندويشة من عند المنتزه؟ أو ما معك حلوان السفر؟ أو أنت ذاهب تبطر في بلاد الفرنسيين ونحن باقون هنا؟ أو صفحات جواز سفرك ينقصها شيء ما. الى آخره من عبارات تشعرك بأنك على باب جامع أو كنيسة تمر أمام صف لا متناه من الشحاذين بسترات رسمية قذرة.
بعد عبوره وأنت محافظ على رباطة جأشك وامتناعك عن الدخول في لعبة الفساد، بابتسامة بلهاء تعلمها السوريون والسوريات كافة إلا من رحم ربي، تطالعك أسواق رامي مخلوف “الحرة” والتي تعتمد في أرقام مبيعاتها على التهريب، وذلك منذ يوم افتتاحها الأول، إلى داخل المدينة أكثر مما تعتمده على البيع للمسافرين، ففيها أجهزة لا يمكن أن تحملها معك في الطائرة ولو كانت طائرتك. وبالتالي، تشرح لك العاملة الأنيقة والجميلة، بابتسامة بلهاء يعتريها الذكاء، بأنه يمكن لك أن تشتري ما طاب ولذ، وتعطيهم عنوان البيت لتصل بضاعتك إلى عقر دارك رغم أنف الصهيونية والإمبريالية والماسونية العالمية. ومن كثرة الزبائن وحجم ما يحملونه، تتسلى أنت بتقدير الرقم اليومي للمبالغ التي تعبر هذه الأروقة النظيفة، على عكس باقي أروقة المطار. وتغادر حزيناً على اقتصاد مضى على ترسيخ عملية نهبه أكثر من أربعة عقود وما زال في البلاد رمق من حياة.
وصلت إلى قاعة المغادرة، وكان على مدخلها عناصر أمنيون آخرون، وهم الأشرس أو الأقوى أو الأهم. وكان أمامي رجل أعمال حلبي معروف، فوضع حقيبته على الطاولة وفتح طرفها ووضع ورقة نقدية من فئة 500 ليرة، حين كان لهذه الليرة قيمة نسبية. أخذ العنصر الورقة وأغلق الحقيبة وتمنى للتاجر طيب السفر، فجأة استيقظ دون كيخوت النائم في أساريري، فقفزت كالمجنون على التاجر وصرخت به أن افتح حقيبتك. وسألته لماذا لا يريد أن يفتشها وما هو المخفي فيها، وقلت بالحرف: هل تحوي سلاحا أو مخدرات؟ رمقني بفظاظة واستغراب وهو يبتعد عني. وكان عنصر الأمن يرقب المشهد وهو يهم بوضع الورقة النقدية في جيبه القذر، فتوجهت إليه وكأنني مسؤول عنه طالباً منه أن يفتش جيدا حقيبة التاجر الحلبي.
للحظات، توهّم الطرفان بأنني، ونتيجة وقاحتي هذه، لست إلا “شخصاً مهماً” ولست من الناس العاديين الذين بدأوا يهمهمون من حولي. فتش العنصر الحقيبة دون أن يُعيد المبلغ بالطبع، ولم يجد فيها شيئاً، وحينما أتى دوري بالتفتيش، وفتحت حقيبتي، ابتسم العنصر الأمني متوهماَ وقائلاً: “أعوذ بالله معلم، تفضل حضرتك”. وفي قاعة الإقلاع، ومتابعاً لكثرة الغلبة، تقدمت من التاجر مستفسراً عن سبب وضعه المبلغ وتشجيعه العنصر على الفساد، فكاد أن ينهال على رأسي بالحقيبة، خصوصا عندما عرف بأنني من عامة الشعب. ومن ثم نظر إلى المسافرين الآخرين، قائلاً إن “مقامه لا يسمح بتفتيشه”. نسيت أن أقول في النهاية، بأن جميع من كان في القاعة، كان ينظر لي شذراً لأنني تسببت بتأخير التفتيش.
مزيج متشابك من ثقافة الخوف والفساد والإفساد…