[jnews_post_author ]
بين ايديكم مجموعة مبعثرة من ذكريات حلبية عشتها بين سنة 2000 وسنة 2006، فيها الكثير من الحقيقة والبعض من الخيال. من ترد أسماؤهم فيها هم شخصيات حقيقية ومن لا ترد أسماؤهم فيها هم اشخاص حقيقيون. ليست ذكريات حميمية خاصة بل فيها ما يعني العموم لأنها مرتبطة بأحداث وهموم تشارك فيها أهل المدينة خصوصاً وأهل المنطقة عموماً في حقبة زمنية محددة.
*****
حمل شهر تموز الجاري معه موعدين ينعشان ذكرى التنويري الراحل نصر حامد أبو زيد. وعلى الرغم من أنه، ومنذ وفاته في الخامس من تموز سنة 2010، لم يفارق فكرياً وإنسانياً، ذاكرتي، إلا أن وقوع ذكرى الوفاة وموعد عيد ميلاده السابع والسبعين يوم العاشر من الشهر نفسه، يحفّزان أكثر وأكثر الذكرى. وهذا يدفعني لكي أستعيد لقاءً جمعنا في حلب في سنة 2002 بمناسبة مئوية استشهاد عبد الرحمن الكواكبي.
لم تكن ندوة الكواكبي التي نظمها المعهد الفرنسي للدراسات العربية في حلب مخصصة للتغني بإرثه أو إغداق المديح لأعماله أو لاستعراضها حتى. لقد كان الهدف هو أن تكون هذه الذكرى مناسبة لاستحضار أهم الأبحاث والنصوص المتعلقة بالإصلاح الديني في الدول الإسلامية ومحاولة ترصّد مآلات هذا الإصلاح. هي إذاً مناسبة لفتح الملف الذي نادراً ما تشجعت المراكز البحثية في العالم العربي، وعلى ندرتها، في التطرق اليه. وهذا طبيعي، حيث أن من غرّب أبو زيد وتركه يفارق الحياة بعيداً عن مصره التي أحب، هم الحكام المستبدون الذين يعتمدون على متعممين رسميين، يكاد يكون راسبوتين، تشي غيفارا مقارنة بهم وبغيّهم وبظلاميتهم وبتزلفّهم للحاكم.
شارك في الندوة عدد من الباحثين العرب والأجانب المهتمين بهذا الموضوع والمعروفين بجديتهم العلمية وبموضوعيتهم البحثية وبإنتاجهم المرموق. كما حضرها جمهور غفير من أهل المدينة المتعطشين للعمل الثقافي الذي يخرج عن الأطر التقليدية والرسمية والأمنية التي اسدلت عليهم ستاراً حديداً من الجهل والتجهيل منذ بدء مصادرة المشهد العام في بلادهم عبر الديماغوجية السياسية والانقلابات العسكرية والوطنية المزيفة. وإلى جانب الجمهور هذا، كان هناك حضور كبير لعناصر مختلف الأفرع الأمنية. جميعهم يحاول أن يحصل على نصوص المحاضرات قبل أن تُلقى دون جدوى، وعلى الرغم من أن اللقاء حصل مسبقاً على جميع الموافقات الأمنية التعجيزية، إلا أن القلق من انتشار الفكر التنويري في غابة الشوك الفكرية بدا جليّاً.
تخلل يوما الندوة، عدد من اللقاءات الهامشية التي جمعت أبو زيد بمثقفين حلبيين كانوا متشوقين لسماعه ومقابلته بعد ان أبحروا عميقاً في محيطات كتبه. وكان من الجميل متابعة الحلقات الصغيرة التي كانت تلتف حوله وحول بقية المشاركين في الباحة الداخلية للمعهد الفرنسي. وكما كان من الباعث على الابتسامة الحزينة متابعة رجال الأمن وهم يحاولون ان “يسيطروا” على الموقف من خلال الاندساس في الحلقات وكتابة ما يمكن لهم أن يفهموه من الكلام المتبادل ضمنها.
بعد نهاية اللقاء الناجح والغني، والذي تم تلخيصه في كتاب اصدره المعهد الفرنسي، بدأت بتلبية سلسلة من الاستدعاءات الأمنية من قبل مختلف الأجهزة الموجودة على الساحة الحلبية، إضافة إلى فرع الحزب الحاكم. ويبدو أن هذا الاستنفار أتى بعد أن هاج بعض المتعممين الرسميين وصرخ أحدهم من على منبره بأنني “جمعت صهاينة وصليبيين وماسونيين وشيوعيين لشتم الإسلام”. تحريض هذا الشيخ أدى بشيخ أكبر دمشقي إلى تعظيم القضية ورفعها الى الجهات العليا كونه من أزلامها الوفيين. فأمرت هذه الجهات بإجراء اللازم. فتصارعت الأجهزة للحصول على إفادتي كل بمفرده ودون أي تنسيق. فصار واجباً علي، ومن منطلق وطني (…) ان امارس “الدبلوماسية الأمنية” لكيلا يتم إطلاق نار اثناء اعتراض دورية للأمن السياسي أخرى لأمن الدولة تصحبني الى مكتب “المعلم”.
في مكاتب رؤساء الفروع، جرت “حوارات” طويلة مع قهوة ومن غير قهوة، اختلطت فيها عبارات التودد والتهديد كما هي حال هذه اللقاءات في العموم. كما اهتم فرع الحزب الحاكم بالأمر فاستدعاني أمينه الحلبي لمكتبه لمناقشة هذا الحدث الجلل. وكان جُلّ الأسئلة لدى الأمن ولدى الحزب، الذي هو فرع أمني بتسمية سياسية، حول نصر حامد أبو زيد خصوصاً. وقد أصر أمين فرع الحزب على إظهار جهله المدقع بأن شدّد على أنه لم يسمع باسم أبو زيد في حياته، فما معنى دعوته؟ وكما أشار إلى استهانته بمستوى الباحثين الآخرين، الذين لم يسمع باسمهم قط أيضاً، حيث لم تنشر لهم صحيفته المفضلة “البعث” أي نص. وقد أراد أن يختم استهانته بالمستوى العلمي للقاء بأن أنكر على الباحثين السوريين أهميتهم ايضاً، مشيراً إلى أن فرنسا تسعى إلى إبراز “النكرات الجهلة”.
سأبتعد عن المبالغة وادعاء الشجاعة، فمن الواضح أنني كنت أكثر رهبة في مكاتب الأمن المتنوعة. ولذلك، أفرغت حمولتي من الردود القاسية نسبياً في مكتب أمين الفرع، لقناعتي العلمية بضعف أهميته التراتبية. فعنصر أمن متوسط الأهمية يمكن له أن يجعله يمشى “كواع وركب” في ساحة الفرع وهو يغادر سيارته المرسيدس إن رغب. فبدأت أشرح له أهمية كل ممن ذكر أسماؤهم وأدعوه لقراءة أعمالهم وأنا أسجل له أسماء الكتب على ورقة تحمل ترويسة الفرع. وقبل أن يجيب، ختمت قائلاً بأنني أفضل بأن أناقشه بعد ان يقرأ شيئاً مرتبط بموضوع الندوة، داعياً الساعي الذي أتاني بكوب من الزهورات الشامية إلى أن يأتيه بهذه الكتب أو المتوفر منها في مكتبات حلب الفقيرة.
لقاء أمين الفرع كان “واحة” استعراض مهارات الحديث دون خوف في صحراء الإرهاب الذي عشته خلال أيام، ولكن ان نسيت فلن أنسى الحوار التالي الذي جرى مع رئيس فرع أمن واسرده هنا باختصار شديد حرصاً على وقت القراء وأعصابهم:
هو ـ لماذا نصر حامد أبو زيد؟
انا ـ لأنه صاحب مشروع فكري نهضوي ونحن نحتفل بالكواكبي الذي كان له مشروعاً فكرياً نهضويا.
هو ـ لم أفهم
انا ـ أقصد أنه يحمل فكراً مستنيراً ويدعو الى نبذ التعصب والتطرف.
هو ـ بالله شو ! (حرفياً مع نغمة نهوند)
انا ـ اي والله.. (حرفياً ويكاد الصوت لا يُسمع خوفاً)
هو ـ يعني بدك تفتحلي اذهان الحمير اللي عنا؟ (مع الاشارة الى ان اللقب الحيواني جاء بنغمة خاصة به)
انا ـ اتمنى ذلك ولكنني لا اعتقد ان محاضرة واحدة أو حتى ندوة واحدة يمكن أن تكفي.
هو ـ تتمنى ذلك يا عيون؟ (وكانت عبارة عيون التحببية قد صدرت وكأنها يا خ… ذات الرائحة)
انا ـ ما هي المشكلة بالنسبة لكم؟ فنحن متفقون على السعي الى “التحديث والتطوير”.
هنا، سمعت مدينة حلب وضواحيها ومخيماتها وقراها الطينية قهقهة تشبه تلكم التي يُطلقها الشرير في افلام الرسوم المتحركة وهو يربت على مقدمة راس قطه الشنيع.
هو ـ شوف يا استاذ (بتصرف، لأنني لا اريد تكرار العبارة)، نحنا صرلنا 40 سنة عم نشتغل لنوصل الجحاش اللي عنا ليصيروا حمير (تخيلوا المشهد) و(ه)نت جايي تفتحلي عقولهم بيومين؟؟ اي روح يااا
انا ـ الله يعطيكم العافية
هوـ (….) لا عاد تعزموه
انا ـ طيب انتو لا عاد تفوتوه للبلد
هو ـ عبقلك انتو لا عاد تعزموه، شو خصك مين منفوت ومين ما منفوت
وفات الحديث في حائط اصم وخرجت بمثل ما استقبلت به من حفاوة وتكريم.