[jnews_post_author]
صفعة العمر
منذ خمسة عشر عاماً وأكثر، وحيث كنت أدير مركزاً بحثياً فرنسياً في مدينة حلب يقع في أقدم أحيائها واسمه “العقبة”، بالقرب من أقدم مساجدها المسمى بجامع القيقان ومن باب الدخول إليها للقادمين من الشمال المسمى “باب أنطاكية”، كنت أميل إلى الذهاب للعمل مشياً على الأقدام من منزلي، ليس بحثاً عن البركة في الحركة، وإنما سعياً مني إلى تجنب التوتر العصبي الذي تسببه سيارات الأجرة بما أن وسائل النقل العامة لم تكن حاضرة أو حضورها كان شحيحاً وغير منتظم البتة حتى في صدر عصر الاشتباه بإمكانية “التحديث والتطوير“.
مع الاقتراب من أسوار المدينة القديمة، ولولوجها وصولاً إلى مكان عملي، كان هناك مدخلان لا ثالث لهما. الأول يمر عبر سوق “العتمة” وهو، لمن لا يعرف حلب، سوقٌ معتم فعلاً ولكنه أيضاً يتميز بأنه سوق القصابة المليء ببقايا الأحشاء الحيوانية وتسيل على أطرافه دماء الذبائح ويعبق هواؤه بروائح كل المنفّرات الممكنة. وكان الشعور الوحيد بالراحة هو شعور خادع لأنه متأتٍ من وقع الأقدام على طبقات متراكمة منذ أيام المماليك ربما لبقايا الذبائح والتي شكلت طبقة تسير عليها وكأنك فوق إسفنج مريح، بعيداً عن التفكير بتركيبتها العضوية. كان المرور عبر هذه العتمة يساعدني على ممارسة رياضة قطع الأنفاس وكأنني أغوص في عمق المحيط. ولطالما أغدق عليّ أصحاب المحلات بالسلام “العطر” ودعوني لشرب كأس من الشاي في محلاتهم بلطف بين الأحشاء ورؤوس أغنام والأبقار الممتدة ألسنتها موتاً. وبالطبع، كنت أعتذر منهم بإيماءة رافضة من الرأس مع ابتسامة. كما كنت أتحاشى النظر في العيون لتجنب استفزاز ما قيل لي بأنه عصبية مستقرة في نفوس القصابين في هذا المجال الجغرافي تحديداً، حيث هم الذين يمارسون عملهم وسكاكينهم مستنفرة لأن ذبائحهم غالباً تسرح خارج إطار “الشرعية” اللحمية.
أما الطريق الثاني، وهو الأطول، فقد كان يمر عبر زقاق ضيق يتواجه فيه مخبزٌ وحمام عام. وقد كان الدونكيشوت الذي في داخلي يتطفل يومياً على زبائن المخبز محاولاً ثنيهم عن نشر الأرغفة الساخنة سعياً لتجفيفها على قارعة الطريق. وكانت عصبية البعض تدفعهم أحياناً إلى معاملتي كالأجنبي واعتبار ملاحظاتي تطفلاً لا ضرورة لاستمراره وإلا فسيتصرفون بطريقة مختلفة كنت أتحاشى التعرف عليها. أما البعض الآخر، فقد كانوا يسمعون ملاحظتي ولا يبدو عليهم أي ردة فعل وكأنهم تحت تأثير مخدر أو أنهم كانوا يرأفون بحالي. أما البعض المتدين، فقد كانوا يغدقون بسرد البدع الدينية التي تعتبر بأن الشرع حلل (…) وضع الأرغفة على أرض فيها ما تيسّر من جراثيم لأحذية ومخلفات الحيوان والإنسان مجتمعة. وفي النهاية، استسلمت، وبدأت ممارسة الحق في الصمت أمام هذا المشهد، خصوصاً وأن صاحب الفرن، جاري اللطيف، كان يأتيني بأرغفة ساخنة لفطور الصباح.
في أحد الأيام، وبعد وصولي للمكتب بدقائق، رمى فتيان صغار يلعبون في الزقاق نوافذ مدخل المعهد بحجارة لسبب في نفس يعقوب، مما أدى إلى تحطيم لوح أو اثنين. وقد شعرت بالخوف بداية، وظننت أنه من الأجدى إعلام الشرطة لتأنيب الفتية أو توجيه أهاليهم لحثهم على عدم الإقدام على مثل هذه التصرفات، وكذلك، لكي أوثّق إدارياً الحدث. فاتصلت بقسم شرطة باب النصر الذي كان الحي يتبع له، طالباً إرسال شرطي من طرفهم لكتابة الضبط والتصرف بما يمليه القانون وتوعية أولياء الأمور. ويجدر التنويه، أن العلاقات في ذاك الزمان بين فرنسا والنظام في دمشق كانت جيدة. وبعد عدة دقائق، سمعت جلبة في الأزقة المحيطة بالمكتب، فخرجت لأرى عناصر من قوات حفظ النظام بالعشرات يحاصرون مداخل الحي بأكمله، مما أدى إلى إغلاق محلات القصابة القريبة، كما الفرن والحمام. وانتشر العسس بإمرة ضابط يطرقون أبواب الحي لإخراج من كانوا من الشريحة العمرية بين 14 و40 سنة. كان المشهد ملحمياً وترددت في أن أصدّق بأنه متعلق بنافذتي المكسورة. وقد ذهب بي الخيال إلى أن الأمر مصادفة وبأن هناك حملة لقمع القصابة العشوائية أو التهريب الغذائي أو المخدرات حتى.
سرعان ما تبين أنني على خطأ مبين وبأن هذه الحملة هي في الحقيقة لمعرفة من كسر زجاج نوافذ المعهد الفرنسي. فقد قام رجال “حفظ النظام” بتجميع، تخلله صفع وركل، لعشرات من الفتية والرجال بأمرة ضابط لم يتسع كتفاه لنجوم النهار التي تزينه. وكدت لوهلة أن أخشى الاعتقال بدوري كون عمري حينذاك لم يكن قد تجاوز الأربعين. وبعد أن تم حشرهم في باصين للشرطة والانتقال بهم إلى المجهول، أتاني رئيس القسم للاطمئنان على المركز منتظراً الشكر والامتنان ومعتقداً بأن عملية الاعتقال الجماعي التي جرت قد أشفت غليلي. فبدأت معه حواراً “حقوقياً” وإنسانياً مخففاً من حجم الجرم ومشيراً إلى المبالغة في الإجراءات. فما كان منه إلا أن نبهني إلى عدم تقديري للأمور الحساسة التي تمس بأمن الوطن وعلاقاته الخارجية مع الدول “الصديقة“.
بعد ذهاب الضابط، وفدت جحافل الأسر التي تم اعتقال فلذات أكبادها إلى مكتبي راجية مني إسقاط الشكوى والمساعدة على فك أسر أبنائهم، فذهبت إلى قسم الشرطة لأتشفع للمعتقلين معبراً عن تجاوزي لما حصل للنافذة. فأجابني الضابط المقدام بأنه سيعرف من “المجرم” ولو اعتقل المدينة بأسرها. وفي جو الرعب السائد، اعترف فتى بجرمه، فقرر رئيس القسم إطلاق سراح المعتقلين الآخرين شريطة أن يمروا بمكتبه ويصفعهم فرداً فرداً. وقد استهجنت الأمر متسائلا عن الحكمة فيما يقترف، فرمقني بنظرة ملؤها الشفقة المقترنة بالسخرية، منوّهاً بأنه لا يجوز الخروج من القسم دون صفعة على الأقل، هذه هي القاعدة لكي ينشر احترام الدولة بين مواطني الحي. فتحسست لوهلة خدي الأيمن قبل الأيسر ، وتخيّلت ما سوف يحدث للفتى المسكين كاسر الزجاج.
وحتى يومنا هذا، لا أدري ماذا حلّ بالفتى، فهل هو ممن ثار على هذه “الدولة” أو هو ممن استُزلم لعسسها بعد أن أطلق سراحه؟ ولكن لا فرق، ففي الحالتين، الصفعة هي السبب.