محمد برو – الناس نيوز ::
منذ بواكير الربيع العربي غدت تركيا ملاذاً لجموع من العرب اللذين لديهم مواقف وطنية إزاء قضايا مصيرية ، إنسانية ووطنية وأخلاقية ، فضلاً عن السياسية منها ، ساهموا بشكلٍ مباشرٍ بتعرف الآلاف على طبيعة الحياة في إسطنبول على وجه التحديد، ما حدا بالكثيرين منهم للانتقال إليها بقصد العمل وتحقيق الأحلام الجميلة، التي دغدغت نزوع الشباب لحياة جديدة، تختلف عن تلك الحياة الصعبة التي عاشوها في أوطانهم، هذا ” الحلم دفع إيمان وخالد” للقدوم إليها، وخوض تلك المغامرة، مغامرة الاغتراب واكتشاف الذات والآخر في بيئة مختلفة.
روايةٌ “حلمُ تركي” للكاتبة المغربية الشابة كريمة أعداد ، تنقلك للعيش في شوارع وحارات إسطنبول، حيث القوميات والجنسيات المتنوعة التي تمنح المدينة وجها قزحياً، مكوناً من عشرات الألوان والثقافات المتنوعة، وتفسح الفضاء ليعيش الزائر أو المقيم هذا التنوع، في حيزٍ يتسم بقدرٍ كبيرٍ من القبول والتسامح، ويمنح العابرين فرصة رؤية الحياة وتجربتها بطرائق مختلفة.
في هذه المدينة التي يصح أن نعدها تكويناً سريالياً، من عشرين مدينةٍ متباينة، توحدت عبر تواطئٍ صامتٍ لتكوِّن معاً مدينة إسطنبول، تلك المدينة الضاربة جذورها في التاريخ، والممتدة أغصانها بحميَّا ونزقٍ إلى كل ضروب الحداثة، فهي تتغير باستمرار لكن جهداً موازياً يبذله أهلوها للحفاظ على روح تلك المدينة العتيقة.
إسطنبول التي تختزل تركيا بمدنها الثمانين، أضحت حلماً للملايين الذين عبروها أو قصدوها، أو عجزوا عن الوصول إليها أو الاستمرار بالحياة بها، بفعل ما يستلزمه كسب ود تلك الحسناء البهية، من مقدرات مالية وأوراق رسمية، لا يطالها جميع الخاطبين، في هذه المدينة تعيش إيمان “الفتاة المغربية” ذات الشعر الناعم حلمها، وتعيد مطالعة مراياها الذاتية كيما تشكل ذاتها على نحوٍ مختلفٍ، تمليه المراجعات وإعادة القراءات، وما يتيحه الواقع الجديد من فرص.
في هذه المدينة تعيد إيمان قراءة حياتها مع زوجها خالد، وتستعرض الانكسارات الناعمة المتوالية في علاقتها به، والتي شكلت عبر تراكمها شرخاً حاداً، وسم حياتها بالبرود والإحساس باللاجدوى، والأهم من هذا كله أنها صارت تنظر إلى نفسها نظرةً مقيته، كونها صاحبة الخيارات التي أوصلتها إلى ما آلت إليه، وهي لا تنفك تنتقل عبر مراسيها الموسيقية “المرساة هنا هي ارتباط حادثة أو إحساس نفسي بلحن أو إيقاع أو ذاكرة معينة، يستدعي حضور الثانية منهما حضور الأولى”، فهنا تتذكر أغنية ام كلثوم وهناك أغنية لاديث بياف وتارة مع السيمفونية التاسعة لبيتهوفن أو أغنية I WILL SURVIVE لغلوريا غاينور، وهكذا نفعل نحن في كثير من الأحيان بوعيٍ حاضرٍ أو غائب.
الراوية سيدةٌ مغربيه شابة، لم تبلغ الثلاثين من عمرها بعد. لكنها حظيت بتجربةٍ غنيةٍ في عالم الكتابة، بعد أن أنهت دراسة الصحافة، وسبق لها أن قدمت مجموعتها القصصية الأولى “نزيف آخر الحلم” التي نالت جائزة اتحاد كتاب المغرب للأدباء الشباب عام “2014”، ثم ما لبثت أن نشرت روايتها الأولى “بنات الصبار” عام 2018، والتي تتحدث عن الحياة الاجتماعية والسياسية في المغرب، من خلال رصد تقلبات حياة مجموعة من النساء المغربيات من بيئات مختلفة، وفي عام 2021 نشرت روايتها الجديدة موضوع حديثنا اليوم “حلمٌ تركي” بعد أن عاشت تجربة الحياة في هذه المدينة لأكثر من ثلاثة أعوام، جابت خلالها شوارعها وأزقتها القديمة، وجلست الساعات الطويلة في مقاهيها التي تضم عوالم مفرطة في تنوعها، الجلوس في مقاهي إسطنبول والمشي الطويل في شوارعها القديمة تمنح العابر القدرة على عيش تجربة الحاضر بجدته، مضمخاً بعبق و توابل الماضي الجميل، ربما يسهم هذا التكوين الفريد، في انبعاث شعورٍ طاغٍ بالحرية، سيما أن العابرين يكونون بطبيعة الحال بعيدين عن مدنهم وبيئتهم، التي تفرض عليهم شكلاً من الإلزام الاجتماعي الذي يتحررون منه وهم في إسطنبول.
كلُّ ما سبق يدفع بإيمان بطلة الرواية، لمزيد من المراجعات الجريئة، التي تدفعها دفعاً لإعادة تشكيل حياتها على نحوٍ مغايرٍ، تغييراً تكون فيه حريتها الشخصية والقدرة على الاختيار، والمضي في هذه الاختيارات إلى نهاياتها المنطقية، محور حياتها الذي لا يملك غيرها التأثير فيه أو العبث به.
تعبر بنا الرواية عبر حياة إيمان في مدينة إسطنبول كدليلةٍ محترفة، عبرت تلك الأزقة الضيقة والحارات العتيقة وجلست في مقاهيها، وهي تكتب فيما تكتبه عن جنبات مختلفة من هذه المدينة الأسطورة، التي تجمع إلى جمالها الباهر وحياتها الباذخة، صفحات عن العنصرية والقومية والغربة التي يعيشها العابرون، عالم الدعارة المخيف الذي تضطهد فيه النساء الأجنبيات، الدراسة في إسطنبول، الثقافة في تركيا، العرب في إسطنبول، المثلية الجنسية، المتحولون جنسياً.
هذه سمة المدينة الحديثة المسكونة بالقلق، حيث تمسك بيمناها ماضٍ ضارب في القدم، بينما تمسك في الأخرى بحاضر عولمي يخضع لإيقاع العرض والطلب واللهاث المحموم خلف اللا شيء.
لا توجد في الرواية أحداثٌ عظيمةٌ ذات خطرٍ، ولا حبكات معقدة، إنها تبحر في أزقة إسطنبول وتتلوى في منعرجاتها، متأبطة ذراع تلك الشخصية القلقة التي تعبِّر بشكلٍ من الأشكال عن طبيعة هذا العصر وإيقاعاته المحمومة، لكنها ما تنفك تتوقف هنا وهناك عند منعطفاتٍ عاديةٍ في حياتنا، طالما عبرناها دون أن تستوقفنا تفاصيلها الصغيرة، تلك التفاصيل التي شكلت حياتنا ولونتها، كما تلون شعيرات الزعفران أطباق الأرز، وكما تفعل حبيبات البهار والقرنفل الناعمة فعلها الساحر في وجباتنا المحببة، ويكفي لتبين مدى هذا التأثير ومقدار تغافلنا عن حضوره، ربما بفعل الاعتياد الرتيب، أن نلغي بعضها عن قصدٍ من يومياتنا، لنكتشف أنَّ الأوضاع لم تعد على سجيتها وألفتها المعهودة.
لن تغيب عنك وأنت تقلب صفحات الرواية، تلك العبارات التقريرية المنحوتة بعنايةٍ كأفكار الفلاسفة، لتكون كالمثل الذي يسير بين الناس، كأن تجد بين السطور ” يرتبط الحب ارتباطاً وثيقاً بالوهم”، “لابد من الاستغناء عن دفء الأوطان من أجل التحليق”، ” لكن الذئب لا يخدع إلا مرة واحدة”، “الغربة الحقيقية ليست تلك التي نشعر بها في بلدان غير بلداننا، بل تلك التي نشعر بها ونحن داخل أوطاننا، فنضطر للبحث عن وطنٍ جديد، وأغلب الظن أننا لا نعثر أبداً على وطن آخر، وتضيع الطريق إلى أوطاننا الأصلية”.
لا شيء يعلِّم المرء بقدر السفر والترحال، إنه يعيد بناءنا ويغير تكويناتنا دون أن يمنحنا فرصةً للمقاومة، غنية هذه الرواية بالانكسارات ومعاناة شخوصها، بالقلق المتكرر، بالنهايات الحزينة، بالحب وانطفاء أواره، بالأسرار المؤلمة، لكنها تنبض بالحياة التي لا تفتر لها حماسة، تدهشك عبر صفحات الرواية مقدار الحديث الجواني العميق، الذي تديره كريمة أحداد عبر بطلتها إيمان، لتكتشف كيف للأنثى المثقفة أن تنظر إلى العالم بشكلٍ مستقل، وتمتلك الجرأة أن تقتحمه، وأن تخط لنفسها حياةً من صنعها وحدها، هذه الحياة الجديدة التي لا تتسق ولا تنسجم مع الأطر القديمة، التي باتت اليوم موروثاً ثقيلاً لا يمكن تحمله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رواية حلم تركي: من منشورات المركز الثقافي العربي
الروائية: كريمة أحداد
تقع الرواية في 415 صفحة