[jnews_post_author ]
بداية كل مدخل لدراسة الاختلاف بين الريف والمدينة ينطلق من الأحسن والأسوأ مدخل لا قيمة علمية له، ولا ينتج عنه إلا سوء فهم كل طرف بالآخر، ويجب أن لا يتكدر خاطر أحد من تناول هذه الظاهرة.
عشت في القرية وعشت في المدينة، ولي أصدقاء ريفيون وأصدقاء مدنيون، ونشأت في أسرة فيها الأم مدنية يافاوية معتدة بمدينتها، وأب من عائلة إقطاعية شهيرة شبه ريفي وشبه مديني من طولكرم.وكلما غضبت أمي المدنية المتخرجة من دار معلمات القدس ، من أبي الأستاذ والأنيق خريج المدرسة الشرعية في عكا، وصفته بالفلاح.
وتعمقت أكثر في فهم السلوك الأيديولوجي للمديني والريفي في كتابي :العرب بين الأيديولوجيا والتاريخي.
وكتبت عن الفرق بين العسكر الريفي والعسكر المديني الذي حكم سوريا.وانهالت عليّ الشتائم كالعادة عندما تعوز المختلف معي الحجة.
ولهذا فأنا على دراية بالفرق بين عالمي المدينة والقرية، دراية تسمح لي بالقبض على ماهية الأمر.
هناك فرق كبير بين أن تكتب عن الاختلاف بين القرية والمدينة من زاوية علم الاجتماع والثقافةالموضوعية ونمط العيش من جهة، والكتابة من منطلق التقويم وأحكام الأحسن والأسوأ.
في الحالة الأولى أنت أمام أحكام موضوعية حول الفرق بين المجتمع الزراعي والعائلة العضوية وعادات الأفراح والأتراح والمعتقدات، والطبخ والثأر من جهة، والمجتمع الحرفي والسوق والتفاوت الطبقي والانفتاح وعادات العيش، من جهة ثانية.
وأثر كل من المجتمعين على تكوين البنية النفسية للأفراد وردود الأفعال التي هي موضوع علم النفس الاجتماعي أثر كبير جداً جداً.
أما إذا تركنا الأمر إلى الأفكار المسبقة لدى سكان المدينة وسكان القرية حول بعضهم البعض، فإننا قد نجد أحكاماً سلبية لدى كل طرف بالآخر. كثمرة شروط اختلاف في الوعي الذاتي الذي ينعكس في الوعي بالآخر، وهذه ظاهرة عالمية.
لكن يجب أن نعترف بأن هناك اختلافاً ثقافياً واختلافاً في النظرة إلى العالم، واختلافاً في العلاقات الاجتماعية.وهو كما قلت،اختلاف موضوعي قابل للزوال مع اكتساب القرية المعاصرة لكل منجزات المدينة، لكنه يحتاج إلى زمن طويل.
غير أن التغير المادي للقرية أسرع بكثير،كما هي العادة ،من التغير النفسي الاجتماعي والقيمي والثقافي عموماً.والمدينة ،من زاوية التطور التاريخي ،متقدمة على القرية ولا شك.
ويجب أن نعترف تاريخياً بأن وعي ابن المدينة بذاته يحمله على الاعتقاد بأنه خير من ابن الريف.إن ابن سان بطرسبورغ ،يشتم مواطنه الروسي، زمن الشيوعية، القادم من الريف بقول:يا قروي.فالنظرة المتعالية لابن المدينة على الريفي ظاهرة عامة.بالمقابل هناك موقف ريفي من المديني بأنه أقل التزاماً بالقيم ، وإن همه الأول هو المال وهكذا.
هل هناك اختلاف في الذهنية بين ابن القرية وابن الريف؟نعم واختلاف كبير.وآية ذلك أن الذهنية تتكون عبر زمن طويل.وبالتالي: إن الاختلاف بين المثقف المديني والمثقف القروي واقعة موضوعية،كما هو الاختلاف بين العسكري المديني والعسكري القروي.والسبب قائم في أن هناك بنيات تنتج الأفراد،بمعزل عن قدرة هذا الفرد أو ذاك على التجاوز.
ولكن أثر المدينة على القرية كبير جداً جداً، وبخاصة على سكان المدن من القرويين، فالتطبع بطباع المدنية باللباس والطعام والسلوك إذا مر عليه زمن طويل فإن هوية جديدة تنشأ لدى القروي مختلفة جداً عن هويته القروية.
وإذا كان التاريخ يشهد على وعيين متناقضين فيما سبق ثورة التقنية والمعلوماتية، فإن حصول القرية على كل منجزات المدينة قد قلص هوة الاختلاف بين العالمين.
———————————————————
أحمد برقاوي