محمد برو – الناس نيوز ::
من الشائع قولنا “إنَّ هذه الصحف لا تساوي قيمتها، قيمة الحبر الذي طبعت به”، وهذا بالضبط كان حال صحف النظام الحاكم في سورية نهاية عقد الثمانينات، كانت هناك ثلاث صحف رئيسة تنطق بلسان النظام وتمجد بالرئيس الفرد، صحيفة الثورة وتشرين والبعث، ومن النادر جداً أن تجد من يشتريها في سورية، إلا لغرضٍ مخاتلٍ، غير غرض القراءة الذي تشترى لأجله الصحف عادةً، باستثناء قلةٍ قليلةٍ ربما يكون اقتناء هذه الصحف لديها، شكلاً من أشكال إظهار الولاء لنظام لا يقبل من مواليه أدنى تراخٍ في إظهار الولاء التام.

خلاصة القول إنَّ هذه الصحف الثلاث، كانت نافذتنا الوحيدة على العالم في الأسابيع الأولى في سجن صيدنايا العسكري، الذي تحول فيما بعد إلى مسلخٍ بشري، ينافس محارق النازيين في وحشيته، ومع كل عللها فإنها كانت أفضل من العماء التام الذي كان يلفنا، في ذلك القبر المصمت، الذي كان يضمنا في سجن تدمر.
كان الرقيب يمر صباحاً، ليسأل رئيس الجناح (معتقل مثلنا): “كم عدد الصحف التي تريدون شراءها اليوم؟ وكان يجيبه عددٌ واحدٌ من كل صحيفة، وذلك لكفايتها أصلا ولضيق ذات اليد، فلم يكن بحوزتنا يومها إلا القليل القليل من الدوانق والقروش.

وكانت الصحيفة تدور عبر المهاجع، فيتصفحها من أراد قتل الملل، ولم تكن تحوي يومها شيئاً ذا بال، ولم يكن هناك إقبال على قراءتها، كونها لسان حال نظامٍ مسرفٍ في كذبه، كما هو مسرف في إجرامه، ولا يقدم في صُحفه أصلاً إلا التافه السخيف، و”يكذب حتى في أخبار الطقس”.

بعد أسابيع شعر بعضنا بحاجةٍ ماسةٍ لورق نكتب عليه، فالأقلام متوفرة لكن الدفاتر أو الأوراق ليست كذلك، فاقترح البعض أن نفيد من هذه الجرائد، بمسح الحبر عنها وتحويلها إلى دفاتر، وأرجح الظن أن الفكرة الأولى، خرج بها رجلٌ كان له سابق عمل في المكتبات والتجليد، وعرف من خصائص الورق ما دفعه لهذا الاقتراح.
وبدأنا فعلاً بالعمل، فكان صاحبنا يعمد إلى صفحة مزدوجة من الجريدة فيبسطها على أرض الحمام، ويغرقها برغوة الصابون، وهو صابونٌ عسكريٌ معروفٌ بفاعلية أحماضه الدهنية، ويتركها زهاء ساعةٍ من الزمن، ثم يعمد إلى إسفنجة شديدة النعومة فيغرقها برغوة الصابون، ويمسح بها سطح الجريدة الممددة على أرض الحمام، بلطفٍ مبالغ فيه، ويستمر في هذا قرابة عشرين دقيقة أو أكثر، إلى أن يزيل طبقةً رقيقةً جداً من الجريدة، وهي الطبقة التي أثر بها حبر المطبعة، لتغدو بعدها صفحةً بيضاء بلون ورق الصحيفة الأصلية، ثم يغسلها مراراً بالماء، حتى يزول أثر الصابون والحبر المزال، ثم يعمد إلى مسطرةٍ أو قضيبٍ خشبي رقيق، فيلتقط به طرف الجريدة المبتلة، ويحملها بأناةٍ وحرصٍ شديدين، كأنه يمشي على حبلٍ مشدود، ويلصقها بجدار الحمام، وهو من البورسلان الناعم، فتكتسب الجريدة الممسوحة نعومة هذا الجدار، وتُترك ساعتين أو أكثر ريثما تجف تماماً، ثم تُنزع برفقٍ شديدٍ وحذرٍ عن هذا الجدار، لتغدو صفحة كبيرة صقيلة الوجه، وقد فقدت أدنى أثر للأحرف السوداء، التي كانت تحتل مساحتها، يأتي بعدها دور المختص بالتقطيع والتجليد فيطويها عدة مرات ويجمعها مع قريناتها، ويجعل لها غلافاً من كرتون مقوى فتصير دفتراً ينتظر صاحبه.

بعد نجاح التجربة الأولى، فوجئ الرقيب الذي كان يحضر لنا كل صباح عدداً مفرداً من كل صحيفة، فقد صار رئيس جناحنا يطلب عشرة أعدادٍ بدل الواحدة، وتطور الأمر بعد عدة أسابيع، حتى صارت حصتنا اليومية عشرين عدداً، وصارت صناعة الورق أو مسح الجرائد، عملاً يتقنه العديدون، وينتظر حصيلته العشرات يومياً ممن يرغبون أن يكون لهم دفترهم الخاص، يدونون به ما يحبون.
وصارت الدفاتر المصنوعة من تلك الجرائد الممسوحة، حاضرةً بين أيدينا بازديادٍ مضطرد، وصرنا نكتب فيها كلٌّ حسب هواه، فهذا يدون الشعر الذي كُتب في سجن تدمر وما أكثره، وذاك يشرع في كتابة نصٍ مسرحي، وثالث يدون موجزات قراءاته، وطائفة عكفت على تعلم اللغة الإنجليزية، فحاجتها للدفاتر تزداد باستمرار، وهكذا نشأت صناعةٌ جديدةٌ بين ظهرانينا، عمادها غسل الصحف وتبييض صفحاتها، وإعادة إنتاجها كي تصبح كتبنا ودفاتر يومياتنا.

لكن لا بد للعسكر أن يرخوا ظلالهم القميئة حيث حلوا، لأنَّ “الملوك إذا دخلوا قريةً أفسدوها”، وهذه كما تبدو من السنن التاريخية التي لم ننج منها، فما أن تمضي بضع أسابيع، نكون فيها قد سطرنا في دفاترنا أطايب ما نحب، حتى تدهمنا قبضة العسكر فيغيرون على الزنزانات، بعلة التفتيش الدوري عن الممنوعات، فيصادرون كلَّ ما تصل إليه أيديهم من تلك الدفاتر، فيغرقونها بالماء ويشبعونها تلفاً، فيغمرنا الحزن على ما ضاع من أيدينا، ثم ما نلبث أن نعاود من جديد، فنمسح مزيداً من الصحف وننظفها من ثقافة البعث التافهة، ونعود فنكتب كلماتنا وكلنا أمل أن تنجو تلك الكلمات.

رئيس الجناح في سجن صيدنايا هو أحد السجناء، يقوم بمهمة التواصل بين إدارة السجن وباقي السجناء، ويقيم معهم في ذات الزنازين.
محمد برو – كاتب سوري ، معتقل سياسي سابقاً – صدر له كتاب مؤخرا بعنوان ” ناج من المقصلة ” .
الأكثر شعبية


الضمير الثقافي…

نموذج سوري: الخلاف حول اتحاد الكتاب العرب

