سلوى زكزك – الناس نيوز ::
ترتبط النتائج بالخيارات دوماً، هكذا كنا نظن، لكن كل شيء قد تغير! خيارات الحياة الأساسية باتت مرتبطة أولاً وآخراً بفكرة السفر، والأصح الهجرة، تتبدل الخيارات حسب وجهة البلد المقصودة، أو المؤمل الوصول إليها، فكيف إذا كانت هذه الخيارات متعلقة بالزواج! رسالة نصية قصيرة عبر الواتس وصلت يولا: “الله ييسر لك حياتك، أنا الآن في الطائرة”!
ميشيل شاب في الثلاثين، ارتبط بخطبة مع يولا، لكن فرصة ذهبية بزغت له من بين سطور الشاشة الزرقاء، عروس ومشروع زوجة تعيش في النروج وتحمل جنسيتها، رتب كل التفاصيل بصمت وتكتم حتى عن أهله، التفصيل الوحيد المعلن كان تأجيل موعد زواجه من يولا حتى العام القادم بذريعة عدم إعاقة يولا عن التخرج وترك السنة الأخيرة لها في جامعتها فارغة من أي التزام عائلي إلا الدراسة. وافقت يولا على مضض، لم تكن مقتنعة بالسبب، لكن أهلها وأهل خطيبها دعموا الفكرة، فأذعنت مكرهة.
تغيرت خارطة الزواج، وتخلل هذا التغير تبرير لمواقف غير مقبولة وخيانات وتراجعات وكذب وتحايل، والأهم أن القبول بما كان ليس مقبولاً صار أمراً واقعاً وغير مستهجن، بل ومبرر.
الحب والحرب .
ربما ما يحصل في سوريا ، حدث سابقاً في البلدان العربية الشقيقة التي اجتاحتها الحروب ، مثل لبنان والعراق ، ليبيا والسودان ، اليمن والصومال ، الجزائر ، وبدرجة أقل التحولات في مصر وتونس … والنتيجة دوما تغيرات اجتماعية جذرية في العادات والتقاليد وفي المفاهيم والسلوك والمصالح ، وغير ذلك فيما يتعلق بمسارات الحياة المتأثرة بمفرزات زمن الحرب حينما يتدخل الحب .
تحولت الهجرة إلى غاية الغايات، يبذل فداء لها الغالي والرخيص، والغالي هنا ليس المال وحده، بل قناعات وآراء وقيم تتبدل بسرعة غريبة، حتى يمكن وصفها بقيم جديدة تتموضع بقوة في واقع بات جديداً وغريباً ومؤسفاً.
اللوحة من أعمال الفنان السوري منير الشعراني – فقد الأحبة غربة
زينة شابة تبلغ من العمر أربعة وعشرين عاماً، تخرجت من كلية الهندسة، راسلت شاباً يعيش في هولندا، له من العمر ستة وأربعون عاماً، رتبت كل الإجراءات الإدارية معه، أرسلت له كل الأوراق المطلوبة، قدم لها طلباً للسفارة على أساس أنها خطيبته، حجزت موعداً وأجرت المقابلة، وصل العريس الغريب عنها وعن أهلها وعن مدينتها وبلدها، وصل إلى مدينتها ليجد كل ترتيبات العرس جاهزة، تزوجا، استلمت الفيزا وسافرا إلى هولندا على جناح السرعة وكأنها تخاف فشل السفر، كانت تعلق كل الآمال الوردية والسعيدة على هذه السفرة، وبعدها فليأتي الطوفان، طالما رددت أمام أمها المذهولة من جنون ابنتها: “هناك الطلاق سهل ويحفظ لي حقوقي”.
يقف الأهالي عاجزون عن مثل هذه الخيارات، عليهم القبول بها كي لا يخسروا أبناءهم وبناتهم وتنقطع علاقتهم بهم بصورة دراماتيكية، بل قد تدفع إحدى الأمهات ابنتها للقبول بزوج غير متكافئ معها سناً، وتحصيلاً علمياً وبيئة، فقط لتثبت أقدامها هناك وتسعى بعدها لضم إخوتها الذكور، الذين يعانون من انعدام الأمن الشخصي ومن غياب فرص العمل ومن فقدان أي أمل أو ثقة بالمستقبل القريب والبعيد.
تغيرت خارطة الزواج، باتت مراسم الاحتفالات مرتبطة حكماً بعريس يملك عملة أجنبية قادرة على إجراء مراسم وحفلات زواج باذخة، وعامرة بالاستعراضات اللافتة، والفرق الفنية، والموائد الفاخرة العامرة بأطايب الطعام وخاصة اللحوم، طعام توقف كثير من السوريين عن استهلاكه، بسبب تراجع وسوء الأحوال المعيشية، لدرجة أن زوجاً قال لزوجته في إحدى سهرات الأعراس: “كل الأكل فيه لحم، أكثري منه بما يفوق الشبع”.
ثمة طرفة لكنها واقعية، تروى عن سيدة ذهبت لتخطب عروساً لابنها فلما سألوها عن تعليمه وعمله، أجابت بثقة وغرور: “لاجئ قد الدنيا”!
تتداخل أسباب تغير خارطة الزواج السورية فيما بينها، من انعدام للأمان اليومي والمعيشي، وفقدان شبه تام لعوامل الأمان الفردي، وغياب فرص العمل والطبابة اللائقة والمهنية، يفتقد السوريون والسوريات إلى كافة مقومات الحياة اليومية والعامة، وبات كل وشطارته، الهجرة عبر اللجوء هي الحل الوحيد في ظل انغلاق كامل للأفق، والمستقبل رهينة بيد الحظ أو القدر، المهم أن الخطوة الأساسية، خطوة البداية ستكون خارج الحدود، فيتضافر غياب الخارطة الجغرافية وربما تجاوزها ونسيانها مع نشوء خارطة اجتماعية وشخصية جديدة، قد يكون الزواج من وراء الحدود أحد منافذها نحو الحياة والعيش الكريم والحر.
التباقي في التفاني – لوحة من أعمال الفنان السوري منير الشعراني
بعد الحروب وأثناءها قد تتغير المعالم الجغرافية لبلاد كاملة، وقد يعاد رسم الحدود بصورة قاهرة ودرامية، لكنها شر لا فكاك منه، يتلمس السوريون ترسيم حدود جديدة لحيواتهم ولعيشهم الجديد، بلا قيود وبلا خوف، وإن كان الخلاص فردياً جداً، ومحفوفاً بالمخاطر والمفاجآت والتحديات .
يرتبط كل عالم جديد حكماً بجغرافيا وحدود وعلاقات وخارطة طريق جديدة، تبدأ مع العقل والقلب والذات والجسد وتتسع نحو حدود جغرافية جديدة لكنها مجهولة، مرغوبة للأسف رغم خطورتها أو ضبابيتها، ويتم البحث عنها واللهاث الجاد والمضني للفوز بها، وكأنها البوابة الوحيدة على العالم، على الحياة .