باريس – دمشق – الناس نيوز ::
الصورة الرئيسة: منشأة “هنا قلبي!” للنحات السوري خالد ضوّا في فانف قرب باريس في 20 تشرين الأول/أكتوبر 2020
حيّ سكني سوّته غارات النظام الأسدي في سورية أرضاً وحوّلت سكانه جثثاً مدفونة تحت أنقاض المباني المهدمة بجانب ألعاب الأطفال المشلّعة… مشهد تكرّر كثيرا خلال الحرب السورية يجسده عمل فني ضخم يرمي صاحبه الفنان خالد ضوّا المقيم في فرنسا إلى إبقاء “تضحيات” السوريين حية في الأذهان.
ففي هذا العمل الذي يحمل عنوان “هنا قلبي!”، كما في سائر الأعمال التي أنجزها منذ أن لجأ إلى فرنسا، يواصل الفنان السوري البالغ 36 عاما كفاحه ضد الظلم، محاولا بلا هوادة الحث على “عدم نسيان ثورة الشعب السوري وتضحياته”.
وقال الفنان الذي اعتقل في بلاده لفترة لوكالة فرانس برس، “عندما أعمل على هذه القطعة في محترفي، أشعر بأنني في دمشق. أقوم بكل ما في وسعي هنا، بعيدا عن هناك”.
ولا تزال ذكريات السجن المريرة تسكن الفنان السوري الذي ترك القمع الوحشي وغياب أصدقائه المقتولين أو المفقودين أو القابعين خلف قبضان السجون، أثرا لا يمحى في حياته.
بين الثورة والذاكرة، يرمي ضوّا من خلال عمله الجديد إلى التنديد ب”تقاعس المجتمع الدولي في مواجهة الأنظمة الدكتاتورية” في سوريا وأماكن أخرى.
ويقول “في مواجهة الكارثة التي تحدث في سوريا، أشعر بالمسؤولية لأنني أملك الأدوات للتعبير عن نفسي”.
بعد معارض في فرنسا وأوروبا، يشهد عمله في الأشهر الأخيرة زخماً قوياً في منشآت كبيرة. وتُعرض منشأة “هنا قلبي!” في المدينة الدولية للفنون في باريس، على أن تُعهد قريبا إلى متحف وطني فرنسي كبير.
– شاهد حي –
بدأ خالد ضوّا هذا العمل الفريد والضخم عام 2018، حين كان قلبه يدمي لمشاهدته من بُعد مأساة الغوطة الشرقية قرب دمشق، وهي من المناطق التي التحقت باكرا بالانتفاضة الشعبية ضد النظام بُعيد بدء النزاع السوري عام 2011، وشهدت دمارا واسعا نتيجة الغارات المكثفة وهجمات كيميائية وحصارا مأسويا.
في “هنا قلبي!”، يبدو الدمار سيد المشهد: ففي العمل البالغ طوله حوالى ستة أمتار وارتفاعه أكثر من مترين، والمصنوع من البوليسترين ومواد هشة (تربة وغراء وخشب) مغطاة بالطين، أعاد النحات بناء الهيكلين الداخلي والخارجي للمباني ذات الأبواب المحطمة والشرفات المدمرة حيث يمكن حتى رؤية الكراسي المنقلبة.
لكن تحت الأنقاض، آثار من وجود البشر، ودراجات مشلّعة، وحافلة مقلوبة. ويمكن رؤية جثة طفل بجانب كرة لعب، وجثة أخرى لامرأة مسنّة.
ويحاول الفنان السوري من خلال هذا العمل أن ينقل معه المتلقّي ليشهد على فظاعة مشهد الموت والدمار.
ويعتبر الفيلسوف غيوم دو فو العضو في المعهد الفرنسي للشرق الأدنى وأحد مؤلفي كتاب “التدمير في أعمال، مقال عن الفن السوري المعاصر”، من بيروت أن العمل “فريد ومبتكر تماماً”.
ويقول “عرَضَ فنانون آخرون أشياء مدمرة وصنعوا منها فنهم”، لكن ضوّا “يُظهر مسار التدمير من الداخل”.
ويضيف “يتوقف قبل أن يختفي الشكل تماماً، لكن المتفرج سيُقاد حتماً إلى تخيل اللحظة التي ينهار فيها كل شيء… كما عندما يضغط تماثيل لسجناء، ليعبّر عن قمع الاعتقال، وأبعد من ذلك أفق اختفائهم”.
– “ذكريات محطمة” –
يعمل خالد ضوّا، خريج كلية الفنون الجميلة في دمشق، على مواضيع تضع “الشعب والسلطة” وجها لوجه.
منذ انطلاق الاحتجاجات المعارضة للنظام عام 2011، شارك ضوّا في تظاهرات قبل خوض مغامرة مشتركة مع فنانين وناشطين في إطار مركز ثقافي مستقل أطلقه الممثل فارس الحلو في دمشق يحمل اسم “البستان”.
ورغم الضغوط الأمنية، واظب خالد على مدى ثلاث سنوات على المشاركة في التظاهرات والعمل في هذا المكان. ووجد نفسه وحيداً تقريباً خلال عام 2013. ويقول “كانت معركتي ألا أتخلى عن المشروع، لئلا يكون ذلك بمثابة التخلي عن الأمل”.
خلال هذه الفترة أدرك ضوّا التأثير الذي يمكن أن تُحدثه منحوتاته. على صفحته على فيسبوك، نشر صورة من عمله “حققت انتشاراً كبيراً في كل مكان” مع “مئات المشارَكات”.
رغم الخطر، واصل ضوّا عمله الإبداعي واستمر بنشر الصور قبل تحطيم منحوتاته “حتى لا يترك أي أثر”.
وأصيب بجروح خطرة ذات صباح في أيار/مايو 2013 داخل محترفه من جراء شظايا طلقات نارية أطلقتها مروحية تابعة للنظام، وسُجن فور مغادرته المستشفى.
طوال شهرين، عانى من الرعب في سجون مختلفة شهد فيها على معاناة معتقلين آخرين من ضحايا التعذيب.
ويوضح ضوّا “كانت مرحلة عصيبة، كان ذلك خلال الصيف. كان هناك آلاف الناس؛ وفي كل يوم كان يموت ما لا يقل عن عشرة أشخاص”، لافتا إلى أن “جثثهم كانت تبقى معنا ليومين من دون أن يُخرجها أحد من الزنزانة… كان ذلك أمراً متعمدا”.
لا تزال هذه الذكريات تسكن كوابيسه. ويقول “لقد حطموا الذكريات في رأسي”.
بعد إطلاق سراحه، تم إلحاقه قسراً بالجيش، لكنه نجح بالفرار من بلاده إلى لبنان في أيلول/سبتمبر 2013، وانتقل إلى المنفى في العام التالي في فرنسا حيث حصل على صفة لاجئ.
– “كل ما لم يعد موجوداً” –
يقول ضوّا إنه أراد من خلال عمله “هنا قلبي!” أن يروي “كلّ ما لم يعد موجوداً: عائلات، ذكريات” وكل ما ترك لديه “ندوباً في القلب”.
وتقول فيرونيك بيار دو مانديارغ المشاركة في تأسيس جمعية “أبواب مفتوحة على الفن” التي تواكب فنانين منفيين، إن ضوّا “كان يعمل مساء كل يوم لمدة أربع سنوات تقريبا”.
وتضيف “أراد خالد أن ينجز صورة ثابتة عمّا يحصل في سوريا، ليبقى في ذاكرتنا”.
بعد أيام قليلة من رؤية العمل في مشغل الفنان السوري، تبدو المحللة النفسية السورية رنا الصياح البالغة 54 عاما والتي لجأت إلى فرنسا، متأثرة بشدة بما رأته.
وتقول “إنه حقيقي للغاية… لم أستطع النظر إلى كل التفاصيل داخل المباني، كان الأمر صعباً للغاية”.
لكنها تتابع “خالد، من خلال هذه القطعة، يعبّر عن الوجع والألم الذي لا يمكننا الحديث عنه؛ لقد أعاد تركيب قصتنا”. وأودى النزاع السوري بحياة ما يقرب من 500 ألف شخص ودفع 6,6 ملايين آخرين إلى المنفى.
في ورشة ضوّا في فانف بضاحية باريس، يمكن رؤية سلسلة منحوتات برونزية بعنوان “مضغوط”، تُمثّل جثة رجل بجسم متقوقع عالق بين أربعة جدران مع عد تنازلي للأيام خلفه، بما يشبه جدار سجين، مجسّد في نقش على الطين.
كذلك يُعرض عمل آخر للفنان السوري حتى شباط/فبراير في الفضاء العام في باريس، وهي منحوتة عملاقة بعنوان “انهض” مصنوعة خصوصاً من الخشب والجص، وتظهر جسدا ضخما تملأ الثقوب رجليه ويديه ووجهه.
ويقول دو فو “فيما يخلّد نحاتو التماثيل العامة قوة الرجال العظماء، يعرض خالد ضوّا بدلاً من ذلك قوة الانحطاط التي يُدين من خلالها” الدكتاتور نفسه.
ولوضع اللمسات الأخيرة على هذا التمثال، عمل خالد ضوّا وسط المارة في الشارع. ويقول بابتسامة مشرقة “عبّر لي أشخاص عن تشجيعهم، وهم يقولون لي +لست وحيدا+”.