عزيز تبسي – الناس نيوز :
-1-
يتذكر العابرون الليليون خبزهم، في الطريق إلى الأفران الموزعة في الأحياء، والرابضة في الأقسام السفلية من عمارات مأهولة بالسكان، لا أحد منهم ينوي التحرر من قناعة الخبز والملح، التي تشد وثاقهم إلى بعضهم.
يتكبدون قبل انبلاج الفجر عناء سير طويل من أحيائهم البعيدة، للاستحواذ على أماكن متقدمة في الطابور، يضيئون طريقهم المعتم بمصابيح يدوية، يسيرون بخطوات تتوجس من مباغتات أواخر الليل، يسرعون خطاهم ما إن يروا التماعة ضوء حليبي ينوس في آخر الشارع، يقتربون من بعضهم، ليحموا أنفسهم من تعديات أصحاب دراجات نارية يجوبون الشوارع الخالية من السيارات، بددت حواسهم حبوب الكابتاكون، ويتجنبوا قطعان كلاب شاردة، بات لها حصة من الشوارع، لا يعرف موعد صحوها من شرودها وتحولات مزاجها…يبددون زمناً طويلا في هذه المهمة الصباحية، لا علاقة له بساعات عملهم التي تأتي بعدها، أو تسبقها.
لا تكفي أفرانها الصغيرة سكانها والمقيمين الجدد الفارين من الأرياف القريبة، وأحياء لم تعد صالحة للسكن. ليس الخبز وجبة غذائية، لكنه جزء متمم لها. لا يكفي للعيش، ولكن لا يمكن أن يستمر بغيابه. عنت الأحاديث القديمة عن الخبز، الخبز المصنوع من طحين القمح المخبوز على النار سواء على طريقة الفلاحين التي لا تقبل الا بعجنه وتخميره، أو على طريقة البدو الذين يعجنون الطحين بالماء وقليل من الملح، ويخبزون رقائقه على صفيحة مقببة من حديد أو فخار.
-2-
تتوزع أمام كوة كل فرن، ثلاثة طوابير المدنيين والعسكريين والنساء، تقتحمهم كل حين اندفاعات صلفة شبه عسكرية، إذ يعتبر عسكرياً كل من يرتدي لباساً عسكرياً. لا يجازف أي مدني، باختراق الطابور…يصل المرتدون بدلات عسكرية على دراجاتهم النارية، أو سيارات مسدلة الستائر أو شاحنات متوسطة، يخرجون منها مبقين بابها مفتوحا، بإشارة لاستعجالهم تلبية نداء مهام حربية لا تحتمل انتظار المدنيين والعسكريين الآخرين، يقفون كأبطال أولمبيين، رافعين الأوراق النقدية التي تشير الى الكمية الكبيرة من الخبز التي يطلبونها، التي تكفي لتسيير عشرة أو أكثر من الواقفين في الطابور، الذين واللواتي لا يمكنهم شراء حصة تتراوح بين 150-200 ليرة، تكفي أسرة من خمسة أفراد ليوم واحد أو يزيد قليلها لإفطار اليوم التالي. ترتفع كل يوم أهمية الخبز لاحتلاله مكان الأطعمة الأخرى، مع ارتفاع أسعار المواد الغذائية، التي تشمل كل ما يؤكل من الجرجير إلى اللحوم الحمراء والأسماك.
لا يعلم الطابوريون أن هذا الرغيف الذي يكافحون للحصول عليه، بلا أي قيمة غذائية، انتزعت قشرته بمهارة الجراحين، وسرقت معها فوائد غذائه، خبز يُسكّن نداءات جوع المعدة، ويخدع الجهاز الهضمي، تمسكوا به لجهل خصائصه ولغياب البديل عنه. هؤلاء الذين ورثوا الانتماء لحضارة القمح المجيدة، حضارة العمل والشبع والنعمة، التي احتيل على جوهرها المشبع بالطاقة والقوة، وترك لهم نشاؤها المربك للهضم والمرهق للأمعاء، والامتنان لمن يدعم قوتهم اليومي.
يلتصق الطابوريون ببعضهم مخالفين محظورات التباعد الاجتماعي، التي تروجها ملصقات وزارة الصحة ومديرياتها، مطيحين بصنائع مروجي عقائد الكراهية، الذين اجتهدوا لإبعادهم أميالا عن بعضهم، مشيدين لهم جدران فصل عنصري أسوة بأفاعيل آبائهم الروحيين من أتباع الصهيونية. يخاف الطابوريون الذين لم يستكملوا نومهم، من تسلل دخيل سفيه مدعياً مكاناً بينهم، يزعم بصراخ مشعوذ، أنه اضطر لمغادرته لقضاء حاجة بيولوجية ملحة، حتى في هذا الازدحام الذليل هناك من يسعى لسرقة عناء يقظتهم الباكرة، ومجازفة السير الليلي، واصطفافهم الخنوع، لكنهم هنا يصرخون بصوت واحد، لإقصاء المعتدي السفيه، وطرده إلى ذيل الطابور.
اعتادوا على شم روائح أجساد لم تستحم ولم يلامسها الصابون، وتلاصق ثياباً صارت أوساخها جزءاً من نسيجها، وصم الآذان عن عبارات تتململ من الوقوف الطويل، والعجز عن استشراف أي بارقة تنهي ليل الخبز الطويل، الذي يتشارك مع ليل نقص الوقود وغياب الكهرباء وفرص العمل.
لا تكف عن قرع رؤوسهم سلسلة من نداءات التذكير، إياكم ونسيان تسديد فاتورة الهاتف بموعدها، لأنه ستنقطع شبكة الإنترنت حين تقطعه إدارة البريد، التي تَزودَ مشتركوها منذ عام بالبطاقة الذكية، ويستدلون عن طريقها بمواعيد استلام السكر والأرز وعبوات الغاز. يحصي الفتى بسبابته أعداد طابور العسكريين، ويبلغ من حوله بالنتيجة المؤرقة، نصف عدد الذين قدموا لشراء الخبز يرتدون لباساً عسكرياً. يتذكر الرجل الطاعن بأسى، أنه خالف أمنية والده بالتطوع في الجيش والقوات المسلحة، بينما ينظر بطرف عينه إلى طابور العسكريين المعتنى بهم من الشرطيين، المكلفين بتنظيم الطوابير.
-هل كان الجيش غير القوات المسلحة
- هذا هو الاسم الذي عرفنا به الجيش. لا أحد بادره بالسؤال أتريد التطوع لامتياز الحصول على خبز بلا قيمة غذائية، لكن ماذا لو قتل بمعركة، ولم يعش ليرى اليوم المأمول.
-3-
شغل الفرن الذي حاذت جدرانه ثلاثة أحزمة من طوابير المتعبين، القسم السفلي من مجمع معماري من طابقين، تعلوه مؤسسة استهلاكية، باعت محدودي الدخل لعقود، السلع الأساسية بأسعار مخفضة، وقسطت لهم على أشهر سنة أو سنتين أثمان غرف النوم والضيوف والأدوات الكهربائية والسلع المعمرة. خرجت منذ زمن بعيد هذه المؤسسة عن العمل.
انتمت إلى صروح تنموية كبرى، انطلقت في ستينات وسبعينات القرن الماضي…سدود أغرقت أراضي لتروي أراضي أخرى أشد اتساعاً وتولد الكهرباء وتوزعها على المدن والقرى، مزارع حكومية تبسط الأرض وتستنبتها محاصيل وافرة من القمح والشعير والشمندر والقطن، ضواحي سكنية تبيع بيوتها بالتقسيط لأصحاب الدخل المحدود.
ارتبط دعم الخبز مع صعود الأنظمة المنبثقة من الانقلابات عسكرية. انقسم في منتصف السبعينات إلى خبز أسمر وخبز أبيض، عرف باسم “خبز كندي” أعلى ثمناً، لم يمض على هذه التجربة عامان إلا وتوحد الرغيفان برغيف واحد، منتزعاً الثمن الأعلى.
تذكر العجوز المتكئ على جدار الفرن، غير مكترث بهباب الشحار الذي لطخ أعلى سترته، تعقبه لعجين أمه المتأني ودعكها المواظب في طبق نحاس عميق، وضغطها منتصفه اللدن للتأكد من مزجه وتوحد كينونته، قبل أن تغطيه بمنديل أبيض وتتركه ليختمر، كنت أنتظر وأنتظر لتمنحني من فوهة التنور رغيفاً هشا، جففت النار ماءه، وقسّت صدره وأطرافه. رغيفاً مكتفياً بذاته، لا زبدة تطريه ورشقة سكر تنتشل طعمه من حياديته. خبز باستدارة البدر، وجلاء ضوئه المهيب.
-خبز مقمّر قال الطابوري الملتصق به.
لم يبق من ماضي الخبز المقمر إلا ذكريات ماض مؤنسة، وحاضر خبز مقمر آخر ،أسموه بهمس :مقمر القذافي.- عزيز تبسي – تشرين الأول – 2020 .