ريما بالي – الناس نيوز ::
منذ أيام، حضرت تجمّعًا جميلًا لمجموعة من السوريين في دار أحد الأصدقاء في مدريد، وبصدفة حسنة كانت معنا في الجلسة صديقة مطربة ذات صوت رائع، وصديق آخر عازف مخضرم كان قد جلب عوده معه. وبعد طلب وإلحاح منا، استجابا بسرور وباشرا بالغناء، فقمنا جميعًا بمرافقتهما متأثرين بالأجواء الوطنية الحميمة ومنسجمين مع الصوت الرخيم والعزف البديع. بدأنا بـ يارايح عضيعتنا، وتابعنا حتى نسم علينا الهوا من مفرق الوادي، ولما وصلنا إلى مقطع: “فزعانة يا قلبي، اكبر بهالغربة، وما تعرفني بلادي، خدني.. يييييي.. خدني، خدني على بلادي.” غصّ معظم الحضور، واختنقت بعض الأصوات ودمعت الأعين.
لتلطيف الأجواء، قال أحد الشبان مازحًا مخاطبًا سيدة أجهشت بالبكاء: لا داعي للبكاء يا سيدتي، لقد كنت في سورية الشهر الماضي، ومما رأيته هناك (والله لازم تزلغطي، الناس هناك عم تغني، خدنيييييي، خدني بره بلادي).
ضحكنا وتأسفنا، ولكن، هل يعزي هذا الكلام؟ الذي يتعدى كونه كلامًا إلى حقائق ملموسة وواقع أليم، هل ضحكتنا تلك كانت أصدق أم دمعتنا التي سبقتها؟ وبكل الأحوال والإجابات، ما المعنى من كل هذا؟ ما فائدة حزننا وهل من نهاية للحنين؟ ما العمل؟ الحل؟ لا حلول تلوح في الأفق، والكل يميل إلى أن يبقى هكذا، يعيش حياته في المهجر، ويختلس منها بضع دقائق، ليبكي الوطن.
نبكي ونختنق حين نغني: خدني على بلادي، ليس بسبب الحنين فقط، بل لإدراكنا كم نحن كاذبون، ولخجلنا وخزينا من بلادنا التي لا قوة قاهرة تمنعنا (أو معظمنا على الأقل) من العودة إليها، لكننا لا نعود، نفضل أن نبقى هنا لنغني ونبكي، ونرسم حلمًا سورياليًا نجد فيه ملاذنا ولو في الخيال : “ألا ليت بلادنا تأتي إلينا.”!!!
هذا الحلم السوريالي صوره بشكل رائع، الفنان تامر ملاك بلوحته المرفقة هنا مع هذه السطور، سوريا الدامية الممزقة والمتماسكة بالكاد (أو بأعجوبة)، تطير معلّقة بعشرات البالونات الملوّنة، في سماء زرقاء تلمع فيها أشعة شمس ذهبية، وتجر خلفها هناك في الأعالي سرب رقيق من الحمام يرافق سفرها، ويحرس رحلتها، نحو عالم من سلام.
تأملتها طويلًا، وأنا أصغي للشرح الذي أُرفق بها، والذي أعترف الفنان فيه أنه اقتبس الفكرة من فيلم الأنيميشن UP .
الفيلم الكوميدي الدرامي المذكورعرض للمرة الأولى عام 2009، أنتجته شركة بيكسار أنيميشن ستوديوز الأميركية، وأصدرته شركة والت ديزني بيكشرز.
تتلخص قصته بأرمل مسن يعزم أن يحقق حلم زوجته الراحلة بهجرالمدينة بضجيجها وتلوثها وعنفها إلى براري أميركا الجنوبية، المكان الساحر والآمن والنقي الهواء، لكن فراق بيته يعز عليه، ففيه صور زوجته وأشياؤها، وأنفاسها ولمساتها وذكرياتهما معًا، يقرر إذن بعد طول تفكير أن يحمل داره معه، فيعلق بسقفه مئات البالونات الملونة، التي تحملهما معًا ليطيرا في السماء باتجاه الحلم الأخضر، وما أحلاه من حلم.
في لوحة ملاك نجد حلمنا السوريالي يتحقق، نجد الإجابة بنعم عن نشيدنا الذي عشقناه وما فتئنا نردده: هل أراك في علاك؟ نراه في وجداننا، بلدنا الجريح يفر من عذاباته نحو الأعالي، ولكن كيف؟ بواسطة بضع بالونات هشات، لا غير. رمزية البالون الذي هو أول وأبسط ألعاب الطفولة تقول: قد انتهت حلول الكبار، وصار الأمر متروكّا لحلول الأطفال، أو قد نفذت الحلول المعقوله وصار الأمر متروكًا لحلول الخيال، للحلول الطفولية الساذجة الرقيقة التي نعرف أن وخزة أبرة تكفي للقضاء عليها، ولا نملك سواها، لتنقذ وطننا من الدرك الذي سقط فيه.
شعراء الأمس وفنانوه، عبروا عن توق المهاجر للعودة إلى وطنه، أما اليوم فإن الفنانين والشعراء فقدوا هذا الترف، هم يعرفون، أنه حتى من بقي هناك في أرض الوطن هو اليوم أيضًا مهاجر، مهاجر بالروح ويوجعه الحنين، فنانو اليوم صارت أقصى شطحاتهم الإبداعية، تتمثل في حمل الوطن إليهم في منافيهم. وعوضًا عن أغنية خدني على بلادي، صرنا نغني: خدني أنا وبلادي.
وكما هو حال ملاك تامر، حال نسرين أكرم خوري الشاعرة السورية الشابة التي حملت معها سقف بيتها وجدرانه إلى منفاها، إذ قالت في قصيدتها الرائعة “ترحال” (التي غنتها رشا رزق):
“لا بدَّ أن نسيمات الربيع
تداعب بيتنا
هذا الصباح
تركنا النوافذ مفتوحةً
لكي لا تُجرح
خدود الستائر المزهِرة
لعلها ثقيلة
من فرط ما أحاطها الغبار
بعطفه الكسير.
رسمنا سقوفًا على سماء غريبة
لبيتٍ جدرانه في الذاكرة
وإن سئلنا عن العنوان
يجيب صمتنا الطويل.
لابد أن العشب هناك نما
فوق ظلالنا
التي تركناها
حول أحلامٍ
وقعت من يدنا
فبكينا هنا.”
ختامًا، وعن الشاعر الإسباني الكبير أنطونيو ماتشادو (1875-1939) الذي مات منفيًا عن وطنه في فرنسا، اقتبس:
“ضربة بعد ضربة، بيت شعر بعد بيت
مات الشاعر بعيدًا عن وطنه
يواريه ثرى بلد آخر
من بعيد رأوه يبكي
أيها السائر ليس ثمة طريق
السير يصنع الطريق.
ضربة بعد ضربة، بيت شعر بعد بيت
عندما لم يعد العصفور قادرًا على التغريد
عندما أصبح الشاعر حاجًا
عندما لم تعد تجدي صلواتنا
أيها السائر ليس ثمة طريق
السير يصنع الطريق
ضربة بعد ضربة، بيت شعر بعد بيت.”
وأسأل أنطونيو متشادو : إذا كان السير يصنع الطريق، فهل يصنع العَيش الوطن؟ وإن كان ليس ثمة طريق، فهل تراه أيضًا ليس ثمة وطن؟
أجبني يا ماتشادو، أيها الشاعر الذي مات بعيدًا عن وطنه.