واشنطن – الناس نيوز
لم يكن انسحاب المرشح عن الحزب الديمقراطي للرئاسة الأميركية، بيرني ساندرز، مفاجئا لأحد، فمنذ خسارته في انتخابات الثلاثاء العظيم، وما تلاها من خسائر لاحقة، كان واضحا أن حظه في ترشيح الحزب يتضاءل بشكل مطرد. ويبدو الآن أكثر وضوحا أن أميركا ليست مستعدّة بعد لقبول نمط من العدالة الاجتماعية شبيهة بجارتها الشمالية كندا أو بالدول الإسكندنافية، بل وربما غالبية الدول الأوروبية.
ويرى المعلق السياسي وائل السواح أن أرقام ساندرز كانت تبشّر بتحقيق انتصار كبير. واستطاع بالفعل أن يشكل تحالفا واسعا من الشباب والنساء والفئات العاملة والمثقفين والملوّنين (باستثناء الأميركيين الأفارقة). وسبّب هذا الحلف العريض، والنتائج الأولية في الولايات المبكّرة، رعبا لدى المؤسّسة الديمقراطية التقليدية التي سارعت لتشكيل جبهة قوية لمواجهة المدّ الطاغي للعجوز الساحر. وانسحب المرشحون الديمقراطيون، واحدا تلو الآخر، وأعلنوا تأييدهم ممثّل المؤسّسة جو بايدن، الذي يعبّر عن استمرارية التقليد الديمقراطي في مقاربة المواضيع الكبرى، من دون الدخول في جوهرها. وفعل ذلك حتى المرشّحون الأكثر تقدميةً، مثل كمالا هاريس وكوري بوكر. وحدها السيناتور إليزابيث وارن التي تشارك ساندرز بعض أفكاره وقفت حين انسحبت، متأخرة جدا، على الحياد بين المتسابقَين الأولَين.
وأضاف السواح – في مقالة له بجريدة العربي الجديد – لو أن السيناتور إليزابيث وارن انسحبت في الوقت المناسب لأعطت ساندرز إمكانية أكبر للفوز. وقد أدرك الرئيس ترامب هذه الحقيقة حين غرد شاكرا إليزابيث وارن لأنها لم تنسحب مبكرا، فلو أنها فعلت “لكان بيرني ساندرز هو الفائز في كل بلد تقريبًا في الثلاثاء العظيم”.
والحقيقة – كما يرى السواح- أن بيرني ساندرز لم ينضم أبدًا إلى الحزب الديمقراطي، ولكن الحزب الديمقراطي هو الذي انضمّ إليه، واقترب من أفكاره الاشتراكية الديمقراطية، بينما لم يتبنّ ساندرز أيا من أفكار الحزب التقليدية. ولا أحسب أن الرجل سوف يرشّح نفسه للرئاسة من جديد، ولكنّ روحه القتالية سوف تستمرّ، على الأقل حتى التخلّص من ساكن البيت الأبيض الحالي. وسيذكر الأميركيون بيرني ساندرز لأشياء كثيرة، فهو أوّل يهودي أميركي تقدّم للترشّح للرئاسة عن أحد الحزبين الكبيرين، وبنى حركةً ساعدت بالفعل في دفع مطالب العمال إلى مركز الحزب الديمقراطي، ما ساعد على رفع الحدّ الأدنى للأجور، وحوّل أفكارا كانت تبدو قبل أربع سنوات فقط مستحيلة، مثل الطبابة للجميع والتعليم المجّاني، إلى أفكار موضوعة على الطاولة وقابلة للنقاش. وحتى المرشّح القوي الآن، جو بايدن، وعد بإدخال بعض أفكار ساندرز الاجتماعية في سياسته. وحين ستتقدّم أميركا ذات يوم نحو عالمٍ أكثر مساواة وعدالة، يتميّز بالرعاية الطبية المجانية، فسوف يتذكّر الجميع أن الفضل في ذلك يعود إلى هذا العجوز، متجهم الوجه، قوي الصوت، والذي لا تلين له قناة.
ويعتقد الكاتب أن ثمّة حاجزا لا يزال قائما بين الأميركيين وفكرة العدالة الاجتماعية، وهو ما يجعل المجتمع الأميركي غير قادر بعدُ على تقبّل أفكار ثورية في السياسة. وفي العموم، لا تزال الطبقة الوسطى الأميركية التي تشكل غالبية المصوّتين الديمقراطيين تميل إلى التروّي والتفكير قبل الاندفاع. وعلى عكس ناخبي ترامب من المزارعين وعمال المناجم والعنصريين والمؤمنين بتفوق العرق لأبيض، الذين اندفعوا بسهولة وراء تطرّف ترامب اليميني وشعاراته العنصرية، لا تزال الطبقة الوسطى تؤمن بتغيير تدريجي بطيء. ولكن هل فشل بيرني ساندرز تماما؟ أميل إلى نفي ذلك، فبسبب حماس ساندرز وروحه المتقّدة، أدخل كلّ مرشّح ديمقراطي تقريبا جزءا من برنامج ساندرز في أجندته، في ما يخص الرعاية الصحية والتعليم والضرائب وقضايا المناخ وإصلاح العدالة الجنائية. وحتى بايدن الذي يدرك تماما أهمية أصوات مؤيدّي ساندرز، توجّه إلى الذين دعموا بقوة الاشتراكي – الديمقراطي المخضرم بقوله: “إنني أراكم، أسمعكم”، قبل أن يكشف، قبل أيام قليلة، النقاب عن اقتراحين جديدين، قال إنهما سيساعدان على تخفيف “العبء الاقتصادي على العاملين”، بما في ذلك إلغاء ديون الطلاب لبعض الأسر ذات الدخل المنخفض.
وفي مقابلة مع شبكة “الديمقراطية الآن” الأميركية، قال الفيلسوف نعوم تشومسكي إن محاولة بيرني ساندرز الرئاسية لم تكن فاشلة، لأنها ألهمت الملايين من الناس وغيّرت الخطاب السياسي بشكل كبير، وأضاف: “من الشائع القول الآن إن حملة ساندرز فشلت، ولكنني أعتقد أن هذا خطأ”. بل يعتقد تشومسكي أن أداء ساندرز شكّل “نجاحًا غير عادي، وغيّر ساحة النقاش والحوار كلية، فالقضايا التي لم يكن من الممكن التفكير فيها قبل عامين أصبحت الآن في منتصف الانتباه”.
جماع القول، فشل بيرني ساندرز في الحصول على ترشيح الحزب الديمقراطي، ولكنه بدأ ثورة حقيقية في المجتمع الأميركي، لا تشبهها سوى ثورة الحقوق المدنية التي قادها في الستينات مارتن لوثر كينغ، ثورة لن تتوقّف بخسارته، وسيأتي قريبا من يحمل أفكار بيرني في العدالة والمساواة، ويصل بها إلى البيت الأبيض.