في 16 مارس آذار 2016، رحل عن عالمنا المفكر والباحث جورج طرابيشي، بعد اعتكاف عن الكتابة استمر خمس سنوات.
تاريخ جورج طرابيشي معروف لكل قارئ عربي، فهو من أسهم في تعريف القارئ العربي على الفكر الماركسي غير الأرثوذكسي، خارج كتب دار التقدم؛ وكان مدخله إلى عالم فرويد الثري، ومدخله إلى فهم محمد عابد الجابري من دون تأليهه.
علمنا جورج طرابيشي أن الماركسية ليست بالضرورة ماركسية-لينينية وأن الاتحاد السوفياتي لا يمثل بالضرورة تجسيد الماركسية على الأرض وأن خالد بكداش ليس معصوما عن الخطأ كالأنبياء. وعرفنا على ماركسيين من طراز آخر، مثل تروتسكي ولوناتشارسكي وكارل لايبكنخت وروزا لكسمبورغ وإريك فروم وهربرت ماركوز.
وكان طرابيشي أفضل من قدّم فرويد إلى القارئ العربي، من خلال ترجماته الغزيرة، كما كان له الفضل في تقديم رؤى نقدية لروائيين عرب عظام من مثل نجيب محفوظ والطيب صالح وسهيل إدريس.
كان طرابيشي مدافعا عن العلمانية لا يلين، وهو من أسس رابطة العقلانيين العرب، التي أصدرت الموقع الرائد “الأوان” الذي لعب على مدى خمس عشرة سنة دورا رائدا في الفكر النقدي والعقلاني والعلماني ونقد الفكر الغيبي.
بعد قيام الثورة السورية، لجأ جورج إلى الصمت. كان كأي مثقف نبيل معارضا بعمق لنظام القمع والاستبداد في سوريا، ولكنه كان يخشى جنوح بعض أطراف الثورة نحو الأسلمة. وعاش سنواته الأخيرة في كآبة مستبدة، وحين رأيته في باريس عام 2013، كان ساهما واجما، ولم يحر جوابا حين سألته بعض الأسئلة.
في سنواته الخمس الأخيرة، كتب جورج مقالتين فقط. أولهما في 21/3/2011 بالتواقت مع البدايات الأولى لثورات الربيع العربي في تونس ومصر وليبيا، وثانيهما في 28/5/2011 مع انخراط سورية بدورها في معمعة ذلك الربيع.
المقال الأول حمل هذا العنوان: تاريخ صغير على هامش التاريخ الكبير. وقد قصد طرابيشي بالتاريخ الكبير ثورات الربيع العربي التي بدت في حينه وكأنها تُدخِل العالم العربي في عصر الثورات التاريخية الكبرى كمثل تلك التي شهدتها فرنسا عام 1789 أو أوروبا الغربية عام 1848 أو دول المعسكر المسمى بالاشتراكي في أواخر القرن العشرين. أما التاريخ الصغير فقد قصد به تاريخه الشخصي – كما يقول هو نفسه – المرتبط بخيبة أمل كبرى. وقد وصف نفسه في خاتمة ذلك المقال الأول عن ثورات الربيع العربي، بأنه “ابن الخيبة بالثورة الإيرانية الآفلة أكثر مني ابن الأمل بثورات الربيع العربي الشارقة التي قلت في نهاية المقال إنني إذا كنت أتمنى من شيء فهو أن يكون توجسي في غير محله، وأن يكون مآل هذه الثورات العربية غير مآل الثورة الإيرانية التي صادرتها القوى الناشطة تحت لواء الإيديولوجيا الدينية، وأن تكون فرحتي بذلك الربيع هي الرفيق الدائم لما تبقى لي من العمر.”
أما المقال الثاني فكان بعنوان: سورية: النظام من الإصلاح إلى الإلغاء. وقد كان محوره على أن سورية، المتعددة الأديان والطوائف والإثنيات، تقف بدورها على أبواب جحيم الحرب الأهلية ما لم يبادر النظام إلى إصلاح نفسه بإلغاء نفسه بنفسه. فغير هذا الإلغاء لا سبيل آخر إلى إصلاح سلمي يصون البلاد من الدمار. ولكن بدلاً من ذلك امتنع النظام حتى عن الوفاء بالوعود في الإصلاح التي كان لوّح بها.
ويعترف جورج أيضاً بأن إصراره يومئذ على قدر من التفاؤل، من خلال مطالبة النظام بإلغاء نفسه تفادياً لحرب أهلية طائفية مدمرة، كان في غير محله إذ ما كنت أعي في حينه، أي في الأسابيع الأولى لاندلاع الانتفاضة السورية، دور العامل الخارجي إعلاماً وتمويلاً وتسليحاً، وهو الدور الذي يدفع اليوم الشعب السوري بجميع طوائفه ثمنه دماً وموتاً ودماراً غير مسبوق إلا هولاكياً، وهذا في ظروف إقليمية وأممية تشهد احتداماً في الصراع الطائفي السني/الشيعي ينذر بأن يكون تكراراً للصراع الطائفي الكاثوليكي/البروتستانتي البالغ الشراسة الذي كانت شهدته أوروبا في القرنين السادس عشر والسابع عشر.
وختم طرابيشي بالقول: “إن شللي عن الكتابة، أنا الذي لم أفعل شيئاً آخر في حياتي سوى أن أكتب، هو بمثابة موت. ولكنه يبقى على كل حال موتاً صغيراً على هامش ما قد يكونه الموت الكبير الذي هو موت الوطن.”
شخصيا، أدين لجورج طرابيشي بدين كبير، فقد كان هو الذي فتح لي الباب أمام الانضمام إلى رابطة العقلانيين العرب وعرفني على رجاء بن سلامة وعزيز العظمة وسيد القمني والعفيف الأخضر وغيرهم، ثم طلب مني الانضمام إلى أسرة تحرير موقع الأوان التي ما زلت حتى اليوم أتشرف بالعمل معها.
جورج طرابيشي بعثي ترك البعث – على عكس التيار – بعد أن استلم السلطة، عندما كانت الكتل البشرية تتدفق صوبه؛ مسيحي رفض الكهنوت المسيحي وفكرة الجحيم؛ ماركسي لم يحج إلى موسكو أو بكين؛ فرويدي لم يعتبر فرويد نهاية التاريخ. رفض المقدس، كل مقدس ونظر إلى الواقع باعتباره حياة جارية.
سيظل جورج في قلوبنا وضمائرنا وسينهل أولادنا من معرفته وثقافته كما فعل جيلنا.
وائل السوّاح