فاتن حمودي – الناس نيوز ::
حين اتيت إلى أبوظبي قبل 20 عاما، المكان الوحيد الذي كسر لي غربتي هو المجمع الثقافي، ومن حسن حظي أنني سكنت جواره، فبات بالنسبة لي المنصة الأجمل، حيث يضاء المكان بالأمسيات والمعارض والفعاليات و الأنشطة، مكان يحمل عمق تاريخ هذه المدينة، في هذا المكان تعرّفت على وجوه كثيرة، بعضها غاب، والبعض لايزال في ألق الحضور، هنا تعرّفت وحاورت الشاعر محمد أحمد السويدي، وعرفت الشاعر أحمد راشد الثاني و صلاح صلاح، و أسماء كثيرة، ومنهم خولة الحديد، صبية بعمر الورد، إعلامية، تشتعل بجمر السؤال، و لأن تجربتها و خبراتها كبرت في ابوظبي، وفي المجمع الثقافي، فقد قرأته بثقافتها ، فإذا كان مفتاح الشعرية في الأساطير عبارة :” هو الذي رأى”، فبإمكاننا أن نقول هي التي رأت، و كتبت كتابها الذي حمل عنوانا:”المجمع الثقافي في أبوظبي-الحيّز السعيد”، للناشر دار العوام للطباعة والنشر “، المجمع الثقافي العمران الذي يضيء المدينة، والذي تجتمع فيه المكتبات كهوية إنسانية، تؤسس لفن التسامح والسلام.
أن تتبع الأثر الجمالي، يعني أن يكون الشعر مفتاح الدخول إلى هذا الحيّز، و هو ما يليق بهذا المكان الذي أضاء أرواحنا، بكل ما قدمه من فعاليات ونتاجات ثقافية، والذي شكّل شعرية خاص في ممراته و دهاليزه ، المكتبات والمسرح، والمرسم، والنخل الذي كنا نقطف منه حبات ملونة كما أعناب الآلهة.
أرادت خولة أن تبدا بالشعر، قبل الدخول في الأبواب، وكان لرامبو الشاعر الذي فتنت حكايته كثيرا من الشعراء، مساحة بين الشعراء،” ليس للخزانة الكبيرة مفاتيح/مرات كثيرة حلمنا بالخفايا التي تكمن بين أجنحتها الخشبية/ واعتقدنا أننا سمعنا في عمق القفل الفاغر صوتا بعيدا/ و همهمة مبهمة مرحة”، و حضر الشاعر قاسم حداد، في افتتاحيات الأبواب:”بذلنا لك جنون القلب لئلا ينتابك ما لا يسمى/ وقلنا لك هذا القلب لك حصن يصونك”، وهل غير لغة القلب مفتاح من مفاتيح قراءة هذا المكان، فهل أرادت خولة أن تنصت للهمهمات و الأصوات المبهمة المرحة، أم أرادت أن تقول بأن الخشب حنون و أن مفاتيح القراءة تبدأ من الحب، والسعادة التي رسمها هذا المكان، والذي ترك أثره في النتاج الثقافي الذي وقعّه المايسترو الأمين العام للمجمع الثقافي محمد أحمد خليفة السويدي، فكانت الترجمات، و كان الكتاب الكسموع، وكان مبدعون يقفون على هذه المنصة التي تمنح المدينة معنى ثقافيا لا ينسى .
هذا المكان المجاور لقصر الحصن، الذي يختزل النبع الأول لماء الثقافة والبناء و الطريق، الطريق من ليوا إلى أبوظبي، المكان الذي احتضن بناة هذا الوطن، فإذا كانت فلسفة الصحراء الزوال، فإن العمران ثقافة البقاء.
الأثر و تتبعه في أبواب الكتاب:
أن تترك أثرا عن هذه المنصة”المجمع الثقافي”، معناه أن تفتح الأبواب أمام القاريء ليرى المدينة عن قرب، ومعناه أكثر أن تمسك بعض مفاتيح الحياة لتقول ادخلوا و تعرفوا على هذا الحيز” المجمع الثقافي في ابوظبي-الحيز السعيد”، هذا العنوان المنصف للمكان و من أدار هذا المكان بشفافية الحب و الشعر، من أدرك دور الفن التشكيلي والسينما، و الترجمة، والموسيقى، وعرف أهمية المكتبات، كهوية إنسانية، المكتبات التي تُشكّل جزءا حقيقيا من الذاكرة المشتركة للبشر، و لأن القراءة الجادة حالة من التحوّل، وعملية تشفير الرموز، فإن الكاتبة تمضي في كتابها بين الشخصي والعام، وطبيعي هذا لأننا حين نكتب نبدأ من الأنا، قراءة المكان مفتاح المتع والحب، مفتاح أعرف نفسك، ضرورة لفهم المكان كبعد فيزيقي و كوني معا، لاسيما و أن الثقافة تعني في عمقها الحضارة، فتتشكل أبوظبي من الثقافة، الهندسة المعمارية الرائعة، والمعارض الفنية والمتاحف ذات المستوى العالمي، والمشهد الأدبي المزدهر، والتاريخ الغني، والفنون المسرحية والإبداع الموسيقي المحلي والعربي والعالمي، هذا المكان الذي كان يزدهي برواده و ضيوفه، وكل عابر سبيل.
فضاءات المجمع:
الدخول إلى هذا الكتاب أقترن بمقدمة، و تبعها أبواب، الباب الأول فضاء المكان، الباب الثاني الفضاء الثقافي للمجمع، ثم الباب الثالث الفضاء الاجتماعي للمجمع، ثم الخاتمة، أعادني الكتاب شخصيا إلى باشلار في كتابه “جماليات المكان”، والذي ربط المكان لاسيما البحروالصحراء بالفضاء المفتوح على المطلق، هنا تأخذنا خولة من باب إلى آخر، تمرّ على الوجوه المؤثرة، والفن و الأنشطة، الوجوه التي عملت في هذا المكان، وتتوقف عند المايسترو الشاعر محمد أحمد خليفة السويدي الذي قاد هذا المكان بصداقة و محبة ومشاركة لكل من عمل هنا، تقول:” في مرحلة زمنية ما، كان المجمع الثقافي مفتاح مدينة أبوظبي بالنسبة للعديد من المقيمين و العابرين، فمن النادر أن عبر أحدهم هذا المكان و لم يترك بصمته في حياته و تجربته الخاصة كفرد، كما انطلقت منه العديد من التجارب الإبداعية العربية والعالمية”، و هذا يفتح على معنى فكرة المشروع التي حملها المكان.
قراءة المكان يعني أن تَعبُر من الموقع، إلى ابنية ومرافق المجمع، المرسم الحر، مرافق الأطفال، دار الكتب الوطنية، قاعة المطالعة، الكتب، الدوريات، تأخذنا خولة من حكاية إلى أخرى، “حكايتي مع دار الكتب الوطنية”، والتي وصفتها الرئة الشخصية لها، و للمدينة ايضا، “بدأتُ العمل في هذا المكان عام “1998، تأخذنا في رحلة بين ممرات المجمع، قاعاته، مكتباته، طوابقه، وتترك رائحة القهوة و التمر في بهو الاستقبال، حيث التأمل و اللقاء بشخصيات و ضيوف المجمع، ثم تتحدث عن الوحدات التنظيمية للمجمع الثقافي، في إشارة إلى اهمية الفكر المؤسسي، والتخصص، والأقسام الثقافية والفنية، و الأرشيف.وثمة إشارة إلى مقتنيات المجمع، وهنا تشير إلى اهمية التراث ثقافة، الأزياء المجوهرات ، وكان الاشياء تحكي عن تواريخ، اوكأن المكان متحف حقيقي للإرث الثقافي الغني لهذه المدينة.
في الباب الثاني، يفضي بنا الكتاب نحو اثر المجمع الثقافي بين المحلية والعالمية، المهرجانات، المسابقات، المعارض، واسماء كثيرة تركت بصمتها في هذا المكان، برنامج سنوي، وفصلي، وشهري، محاضرات ندوات، تسرد اسماء من مرّ على هذا المكان، صادق جلال العظم، طلال حيدر، ادونيس، قاسم حداد، احمد راشد ثاني نجاة مكي صبحي حديدي، ممدوح عدوان، ثم مشاريع الكتاب المطبوع والنشر الالكتروني، والنشر المسموع، ومجال النشر السمعي البصري، ومن ثم الموقع الالكتروني”الذي شكل منصة تجاوزت مجرد نشر اخبار الفعاليات، وكان بمثابة تعريف شامل لكل ما يدور بين اروقة المجمع”.
تقول:” عندما عملت في المجمع كانت مهمتي تطوير محتوى الموقع”، و تشير إلى ربط هذا المكان بالعالم، “كانت إحدى المبادرات الهامة التي ساهم من خلالها المجمع الثقافي في ربط دولة الإمارات بمختلف انحاء العالم، استقبال الوفود الرسمية والثقافية والشعبية، إضافة لكبار المثقفين والمفكرين، و اعضاء السفارات العاملة في الدولة”. ص131
دوريات المجمع:
من عرف هذا المكان عرفه من المنشورات، و الدوريات أيضا، مجلة السينما التي كان يرأسها الكاتب صلاح صلاح، مجلة شعر، مجلة المجمع والتي ترأس تحريرها الصحافي اللبناني الراحل حسان زين الدين، وكان للطفل مساحة مهمة، لاسيما مجلة العنود، و”تيمنا بقصر الحمراء في الاندلس، كان هناك وعد بمجلة “الحمرا”، من سعادة الامين العام للمجمع الثقافي محمد احمد السويدي”، هذا المكان الذي شهد أول انطلاقة لمعرض الكتاب عام 1981 وكان تحت مسمى” معرض الكتاب الإسلامي”، حيث “حرص الراحل المغفور له بإذن الله على رعاية الحدث وافتتاح المعرض”. ص136
ثم تورد الكاتبة قصص شراء الشيخ زايد لكتب المعرض و إسعاد كل الناشرين في إشارة إلى أهمية القراءة في تأسيس الوعي الثقافي لشعب الإمارات ومن يقيم على هذه الأرض
عام 1986، بات اسم معرض الكتاب، المعرض الاول للكتاب في ابوظبي، وكان دوليا، ومن ميزاته عدم تقاضي اجر من الناشرين، و إرسال الكتب إلى المجموعات النائية، واستضافة عدد من المبدعين والناشرين،”يذكر انه في عام 2015 احتفل المعرض بيوبيله الفضي”، وكانت الندوات تحت شعار:” الشيخ زايد : نور يضيئ المستقبل”.
هكذا تأخذنا الكاتبة، من باب إلى باب، و تتوقف في الباب الثالث، الذي حمل عنوان”الفضاء الاجتماعي للمجمع”، والذي أدخلتنا إليه من نص محمود درويش كزهر اللوز أو أكثر، لتشير بعدها إلى عناوين فرعية، المجمع الثقافي في وجدان الناس و عيونهم، هذا الباب الذي يؤكد على اهمية موقعه بين مجتمع ابوظبي، كبعد حيوي شفائي و ثقافي، و توجيهي و تاسيسي، من الطفل الى طلبة المدارس والجامعات، مرورا بربات البيوت، و المبدعين و المبدعات ايضا.
موظفو المجمع بين العمل الوظيفي والإبداع:
هل أرادت خولة أن تعيد الضوء للوجوه التي حفرت و أثرت في هذا الصرح الحضاري، في إشارة إلى أن المدن منتج الإبداع و الثقافات، وفي إشارة أكثر إلى أهمية المشروع الذي بدأ كفكرة، والتي صاغت المشروع وساهمت في تاسيسه، معالي احمد خليفة السويدي، “من ابرز رجالات الشيخ زايد االذي ساهموا بتأسيس دولة الإمارات”، وتشير إلى سعادة محمد احمد السويدي” كانوا يعملون كأوركسترا متناغمة”، ” كان مروره على مكاتبنا، كالنسمة الصيفية العذبة، بهدوئه و رقيه و حضوره الطيب، لم يصدفه احدنا على مداخل المجمع والسلالم، إلا توقف ليحينا ويسلّم علينا، وبدون رسميات، وكانت هيبة الرجل تحضر معه”.154
هذا الرجل الذي منحته الحكومة الايطالية وسام ” فارس”وهذا ينطبق عليه و يليق به كمسؤول عن هذا الصرح، فهو شاعر النبل الجميل. في هذا الصرح عمل الكثير من المبدعين ، صلاح صلاح، ، الباحث والمفكر الامارتي والشاعر احمد راشد ثاني، الشاعر محمد المزروعي، الفنان و مصمم الغرافيك علي الجاك سعيد، الكاتب والأديب محمد ولد عبدي، عمل فيه الكثير من المبدعين، والفنانين والفنانات التشكيليات، والنقاد والباحثين، و لأن التغيير ضرورة، لابد من ” ترسيم الذاكرة الشخصية، واستعادة الشخصيات التي ساهمت في هذا المنجز الذي قدمه المجمع، فمن النادر ان تجد مكانا تجتمع فيه كل مفردات الثقافة المؤثرة بهذا الزخم الكبير من تعدد الرؤى والخيارات كما فعل وكان المجمع”.
الكتاب يضي جانب من سيرة هذا المكان، يوثق لبعض التفاصيل، و ألأهم الإشارة الكبيرة التي يحملها الحيز السعيد، حيز الإبداع والمحبة، و تناغم العاملين بروح تحمل ذكرى في نصوص كل من عمل في هذا المكان أو مرّ به، وهنا أود الإشارة إلى ماكتبه الشاعر الراحل أمجد ناصر في كتابه”الخروج من ليوا”، و إشارته إلى خصوصية هذا المكان تاريخيا، من خلال جواره لقصر الحصن وافتراقه العمراني عن الأبراج التي ترسم وجه المدينة.