د . غادة بوشحيط – الناس نيوز ::
تربط الجزائر علاقات خاصة وممتدة بالولايات الأمريكية المتحدة، انطلاقاً من احتفاء الأمريكان خلال القرن التاسع عشر بـ “الأمير عبد القادر الجزائري” مؤسس الدولة الجزائرية، مروراً بمواقف الحزب الديمقراطي من ثورة الجزائر، وإلى الترحاب الذي حظيت به الدولة المستقلة حديثاً على صعيد أمريكي رسمي، على الرغم من ذلك لم تتقارب الخيارات السياسية والاقتصادية للبلدين، لكن المصالح على هذين الصعيدين ظلت متجانسة وهي كذلك حتى اليوم.
على الصعيد الشعبي الجزائري، لطالما كان بلد العم سام قريباً بسينماه ومسلسلاته، وحتى لغته التي أصبحت من الأكثر انتشاراً بين الأجيال الجديدة، بفعل الاحتكاك الدائم مع مختلف أشكال التواصل المستحدثة، وما تفرضه ظروف البحث العلمي والأسواق الاقتصادية، كما يلحظ من فترة قريبة نشاط دؤوب (على الأقل على مستوى السوشال ميديا)، للسفارة الأمريكية في البلاد موظفة أسلحتها الناعمة لكسب المزيد من الانتشار والمرئية، حيث رعت من فترة قريبة حفلاً موسيقياً ( وان بيت صحرا beat sahara one) شارك فيه فنانون من أمريكا والمغرب العربي وأقيم في مدينة تاغيت جنوب الجزائر، وغيرها من الأنشطة.
لكن ماذا عن الحضور الجزائري الناعم في بلاد العم سام؟ يبدو أن صورة البلد لا تختزل في النفط والغاز الذي يعرف شراكة مميزة بين البلدين، على الأقل من خلال “دار أطلس”، وهي الرواية التي أصدرتها الباحثة والكاتبة الأمريكية أليس كابلان أستاذة الأدب الفرنسي بجامعة “يال” منذ أسبوع لدى دار نشر “البرزخ” في الجزائر، ودار “بروي دوموند” بفرنسا، وجمعها حوار بجريدة “الناس نيوز الأسترالية” حوله.
لـ كابلان رصيد كبير من الأبحاث والترجمات، لكن علاقتها بالجزائر بدأت فعلياً سنة 2012 بسلسلة زيارات إلى البلاد، تكللت بصدور كتابها عن ألبير كامو الذي ولد وعاش في الجزائر وعنونته بـ “بحثا عن الغريب”، هي التي تجمعها علاقة صداقة مميزة مع إيلاين كلاين مختفي الأمريكية التي ناضلت إلى جانب القضية الجزائرية، واشتغلت كمكلفة بالإعلام لدى “جبهة التحرير الوطني” الجزائرية سنوات الثورة، تقول أليس كابلان، كما تضيف بأن البلاد تحتل مكانة مميزة لدى الكثير من المهتمين بالدراسات “ما بعد الكولونيالية”، إضافة لكون فرانز فانون الكاتب المارتينيكي-الجزائري، من المفكرين المهمين في أمريكا هو الذي اتخذ من الجزائر مادة لكتاباته.
لكن يبدو أن تعلق الكاتبة الأمريكية بالجزائر قد دفعها للغوص في أحد أعقد القضايا في تاريخ الجزائر المستقلة، منطلقة من أحداث حقيقية أصبغتها بألوان الكتابة الروائية لتحكي لنا سيرة “دار أطلس” قصة عائلة يهودية جزائرية ممن لم يغادروا البلاد بعد استقلالها في 1962.
تبني كابلان روايتها على ثلاثية: دانيال أطلس، إيميلي وبيكا. تنطلق في سردها من الولايات المتحدة الأمريكية حيث تعيش السيدة إيميلي رفقة ابنتها المراهقة بيكا التي لم تعرف يوما والدها، تربطها علاقة مضطربة بزوج أمها رغم محاولاته تأدية دور الأب بما يملك من حيل.
تتلاعب أليس كابلان بالأزمنة داخل الرواية، لتنقل القارئ نحو المرحلة الأهم فيها والأكثر حساسية في تاريخ الجزائر، عشرية التسعينات التي عرفت الأحداث الأكثر دموية في تاريخ الجزائر منذ استقلالها، لنتعرف فيها على بداية القصة الأساسية حين تلتقي الطالبة الأمريكية بشاب جزائري على مقاعد كلية الحقوق بوردو بفرنسا، سرعان ما يهرب دانيال أطلس عكساً نحو بلده محاولاً عبثاً حماية أهله وأصدقائه في عز الأزمة الأمنية، مخلفاً وراءه حبيبة وابنة لن يعرف بأمرها إلا بعد سنوات طويلة.
تحاول إيميلي اللحاق به والاطمئنان عليه هي التي اكتشفت حملها، دون جدوى لتغادر البلاد بعد خمسة أيام من دخولها، دون العثور على دانيال الذي سيعمل كعنصر استخبار لصالح أجهزة الأمن الوطنية لضمان حماية من تبقى من أصدقائه، بعد أن هاجرت والدته وقضى والده في عملية قتل شنيعة.
تتفادى كابلان بذكاء الأسئلة التي توجه لها حول العائلة التي مدتها بالتفاصيل الأساسية لقصتها، مؤكدة أن دانيال أطلس وبالتالي الشخص أو الشخوص الذين يمثلهم وجدوا حالة من التوازن عقدين بعد انتهاء “عرس الدم الجزائري” لكن دون انتفاء لتأثيراته.
نهم الباحثة الأمريكية لن يتوقف عند سرد وقائع حياة عائلة “أطلس” بل ستوظف التاريخ بوثائقه وأرشيفه تارة في عرض علاقة الجزائر بالولايات المتحدة الأمريكية، وأخرى في سرد تاريخ يهود الجزائر الذين دافعوا عن فكرة الجزائر المستقلة، وحقوق المسلمين من الأهالي، تروي قصص بطولات جزائريين إبان الثورة، ومختلف وجهات النظر التي سادت ضمن ذلك السياق، هي التي أكدت لنا أن سر اهتمامها بتاريخ الطائفة اليهودية في جزائر الاستقلال نبعت من حضور الرموز اليهودية في اليومي الجزائري بعد ستين سنة من استقلالها، والتي وعلى الرغم من مغادرة الكثير من أبناء الطائفة للبلاد إلا أن اللسان المحلي مازال يحتفي بذكراهم مستعينة بالتسمية العاصمية لأكبر كنيس في الجزائر، والذي يدعى بـ “جامع ليهود” بين العامة على الرغم من تحويله إلى مسجد من سنوات طويلة.
تؤكد كابلان أن انتماءها لعائلة يهودية لائكية من مينيسوتا الأمريكية هو ما شجعها للخوض في موضوع يعزف عن الخوض فيه الكثير من الكتاب، انتماء يساعدها على حمل نظرة خارجية جديدة عن الموضوع.
تصف الباحثة الأمريكية بكثير من الدقة يوميات الأحياء العاصمية، تعيد خلق أجواء العشرية الأخيرة من القرن الماضي في البلاد، منطلقة من أحداث حقيقية كواقعة مقتل أحد مشجعي أحد أهم الفرق الكروية المدعو ياماها على يد المتشديين، تذهب حتى توظيف المحكي اليومي في روايتها التي سبق صدورها باللغة الفرنسية النسخة الإنجليزية، معارضة تسمية نسخة أصلية وقد جزمت لنا بأنها كتبت أجزاء من الرواية باللغة الفرنسية مباشرة قبل أن تستعين بمترجم ليساعدها على ترجمة باقي الرواية عن الإنجليزية، مرحبة بفكرة “الترجمة العكسية” لروايتها نحو الإنجليزية إذ تجد في الأمر تجربة مثيرة، هي التي تستعد للمشاركة في الصالون الدولي للكتاب الذي سيجرى خلال الأسبوع الأخير من شهر آذار/مارس الجاري بعد انقطاع دام سنتين بسبب جائحة “كوفيد 19”.