بثينة الخليل – الناس نيوز ::
تحفل ذاكرة مدينة رأس العين، الواقعة في أقصى شمال سوريا، بذكريات عامرة عن دار للسينما في مطلع خمسينيات القرن الماضي .
كانت هذه الدار تعتبر حالة ثقافية نادرة، جاء بفكرة إنشائها سوري مسيحي حلبي اسمه بطرس خوكاز لتكون أول دار للسينما في هذه المدينة الصغيرة في حجمها وتعدادها السكاني آنذاك ، الكبيرة في تنوعها وغناها الثقافي.
كان الأمر حدثاً جللاً بالمعنى الإيجابي للكلمة بالنسبة للبعض من أهل رأس العين حينها، فيما كان تحولاً سلبياً بالنسبة لآخرين، لكن غالبية السكان كان موقفهم الفضول لرؤية الشاشة الساحرة، التي سمعوا أنها تنقل الناس إلى عوالم بعيدة لم يروها، وقد لا يستطيعوا رؤيتها أبداً.

لم يدم الجدل طويلاً، وصارت أول دار سينما في رأس العين، حقيقة عام 1953، حيث وصلت آلة عرض سينمائي إيطالية الصنع من ماركة “فيكتوريا”، ورُكبت في صالة عرض سماها “بطرس خوكاز” “سينما الأهرام”، ونالت شهرة كبيرة لدرجة أن الشارع الذي توجد فيه، لُقب بشارع”السينما”.
كان “بطرس خوكاز” سعيداً جداً بتجسد فكرته، فالأمر وإن تم بيسر نسبي في رأس العين، إلا أنه لم يكن كذلك في أماكن أخرى.
يقول السيد الياس خوكاز ابن بطرس خوكاز لجريدة “الناس نيوز” الأسترالية : “الوالد أجرى محاولتين سابقتين لإنشاء دار سينما إحداهما في مدينة جرابلس السورية عام 1951 والثانية في منطقة عامودا عام 1952 ولكن المشروع لم ينجح سوى في رأس العين، لكن ثمة صعوبة واحدة كنا نواجهها في ذلك الوقت وهي طريقة نقل الأفلام من مدن حلب والحسكة والقامشلي” السورية .
من دار للسكن إلى دار للسينما…
مقر “سينما الآهرام” كان عبارة عن دار للسكن لأحد أهالي مدينة رأس العين استأجرها منه بطرس خوكاز. وهي بناء مؤلف من طابقين، الطابق الأرضي فيه صالة عرض شتوية مقسمة إلى قسمين إحداهما للنساء فيها مقاعد لا يتجاوز عددها الـ 30 مقعداً، وقسم آخر للرجال يتسع لـ 100 مقعد.
الصالة الصيفية كانت في الطابق الأرضي أيضاً، وملاصقة للصالة الشتوية وتتسع لـ 200 شخص، وهي عبارة عن أرض مكشوفة مساحتها 30 × 20 متر فيها جدار مطلي باللون الأبيض، ترتكز عليه شاشة عرض الفيلم.
أما صالة العرض كانت مجهزة بمسرح ترتكز عليه شاشة العرض، هذا المسرح عبارة عن “مصطبة” تعرض عليها نشاطات متنوعة من حفلات فنية واحتفالات وطنية، وكان موعد عرض الأفلام في بداية المشروع مرة واحدة كل مساء.

وكانت قيمة تذكرة من يجلس في الصف الأمامي في 25 قرشاً سورياً ، ومن يجلس في الوسط فتذكرته كانت بقيمة 50 قرشاً، أما من كان يحالفه الحظ ويجلس في الشرفة “البلكون” فكان يدفع ثمن تذكرته 75 قرشاً.
عرض ..وحضور…
غرفة العرض كانت تحوي جهازاً يتم من خلاله تركيب البكرات الثلاث التي توضع عليها الأفلام، وداخل الآلة يوجد قضيبين من الفحم، إحداهما موجب والآخر سالب، يتقاربان على بعضهما البعض، ومن خلال هذا التقارب كانت تلمع الشرارة التي تعطي وهجاً قوياً يستخدم بدل المصباح، أما الزجاجة المكبرة فكانت عاكس على الشريط السينمائي والذي يتم من خلاله العرض وإظهار الفيلم والتسجيل الصوتي الموجود على شريط السينما الخاص بالعرض.
رواد سينما هذه المدينة الصغيرة كانوا من الشبان، ولا يخلو من كبار السن، ويشمل حضور عوائل بأكملها. وكانت آنذاك تُعرض أحدث الأفلام العربية والعالمية المنوعة التي تشد المشاهد كالهندية والحربية والكوميدية.
يوضح السيد خوكاز لـ “الناس نيوز”: ” كان الجمهور ف يالخمسينات يرتاد السينما في رأس العين لحضور أفلام عربية بالأبيض والأسود للفنانة أسمهان وللفنانين أنور وجدي واسماعيل ياسين، وفي الستينات والسبعينات كان الإقبال كثيفاً لحضور أفلام الفنانة سميرة توفيق” .
يضيف خوكاز للناس نيوز “أن فيلمي عقد اللولو لـصباح وعنترة بن شداد لفريد شوقي حققا لديه نسبة مشاهدات كبيرة في ذلك الوقت”.
ويقول الأستاذ عطا، ابن مدينة رأس العين لـجريدة “الناس نيوز” الأسترالية ، “إن إدارة السينما كانت تضطر في بعض الأوقات لاستدعاء الشرطة لتنظيم دور الجمهور كون الصالة لا تتسع سوى لـ 100 شخص، والراغبون بالحضور أكثر من ذلك بكثير”.

تراجع ثم توقف..
وشهدت “سينما الأهرام”، وكل دور السينما في سوريا، في سبعينات وثمانينيات القرن الماضي، ميلاً في الأفلام المعروضة نحو تجاوز أفلام التسلية والكوميديا إلى الأفلام الاجتماعية الجادة، وظهور أفلام لممثلين سوريين، وإنتاج سوري.
ومع دخول شاشة التلفزيون إلى المنازل، بدأت السينما تفقد مكانتها ودورها بسرعة، يقول إلياس خوكاز: “بدأ الإقبال على دور السينما ينخفض بعد سنتين من وصول البث التلفزيوني السوري والتركي لرأس العين، وأن الأفلام المسموح عرضها بدأت بالتناقص، بسبب حصر استيراد الأفلام لصالح المؤسسة العامة للسينما، وتدخلها في نوعية الأفلام المستوردة”.
ويضيف خوكاز لـ “الناس نيوز”، “أن تدخلات حزب البعث في رأس العين، أثرت كثيراً في تراجع دور سينما الأهرام، حيث ألغي المسرح وكل النشاطات، واقتصر عملها على عرض الأفلام فقط، وظل عدد الأفلام يقل حتى توقفت دار الأهرام نهائياً في التسعينيات، لتعود كما كانت، داراًللسكن، ما تزال موجودة حتى الآن”.
وجود “دار الأهرام”، وتألقها ونجاحها الكبير، ثم تراجعها، فتوقفها التام، وتحولها إلى مجرد ماضي وذكرى جميلة، يعكس بالضبط ما شهدته سوريا من انفتاح وتحرر كبيرين بعد الاستقلال، ثم تدخل الحزب الواحد بنبض المجتمع ونشاطه، ثم قتل كل نبض وكل نشاط اجتماعي وثقافي، وإعداد سوريا لتدخل عصر الدمار الشامل، الممتد بلا نهاية حتى اليوم .