محمد برو – الناس نيوز ::
ليس جديد على الأديب الصحفي الموريتاني “أحمد فال الدين” أن يأخذ بتلابيبنا وهو يشدنا بكلتا قبضتيه إلى مغاور التاريخ، سبق له أن مضى بنا عبر روايته القديمة “الحدقي” إلى أزقة بغداد، نتتبع خطى الجاحظ منذ نشأته الأولى، إلى أن أصبح فصلاً مفرداً من فصول الفلسفة والأدب والتاريخ، وهو إذ يعمد إلى تلك الشخصيات الموغلة في القدم فيخرجها عبر رواياته من مدافن التاريخ المتخشبة، إلى عوالم الرواية الحية، فيبث في رممها البالية دماء الحياة وروائح الزمن الذي فيه نشأت.
اليوم يأخذنا إلى حاضرة أخرى ربما لم نعرف عنها إلا اسمها وبعض المفردات، رغم أنها لؤلؤة نادرة في عقد الزمان، إنها أصفهان أبهى المدن السلجوقية، من منا لم يعرف الوزير نظام الملك الذي جمعته الدراسة برجلين كانت لهما بصمة بارزة في تلك الحقبة، هما حسن الصباح مؤسس فرقة الحشاشين ومنظم الرعب في قلعة “آلموت” والشاعر الفلكي الفيلسوف عمر الخيام الذي طبقت شهرته الآفاق، شغل نظام الملك الذي كان يلقب بـ ” خواجة بزك” الوزارة في عهد السلطان السلجوقي ألب أرسلان وتولاها تاليا في عهد ولده ملك شاه.
كانت عيونه ترنو إلى هناك إلى بغداد ونيسابور حيث كانت المدارس النظامية أداته الأمضى في تثبيت المذهب السني، في مواجهة انتشار المذهب الشيعي آنذاك، فقد أراد أن يجمع علوم الفقه مع التصوف والحديث والمنطق تحت سقف واحد يدرس لطالبي العلم، فيكونوا سلاحه الأمضى في وجه شيعة ذلك الزمان.
أرسل رسله وعيونه إلى نيسابور، ليفحصوا عن قربٍ ذلك الشاب الصاعد صيته، في قوة حجته ومتانة محاورته، وسبكه الفريد لأفكاره واستقامة مذهبه، إنه العالم الشاب “محمد الغزالي الطوسي النيسابوري” الذي سيعلو شأنه ويصبح “حجة الإسلام” في عصره، فلما توثقت له المصادر واتفقت على نباهته وسلامة منهجه، بعث اليه وجعله من خاصة خاصته،
تقودنا الرواية في منعرجاتها الكثيفة في أزقة نيسابور، عبر حياة الناس اليومية، فكأنك تصغي إلى هرجهم في الأسواق المزدحمة التي حملت إليها البضائع من كل حدب وصوب، ولا يفوتك عالم الوراقين الذين لا يتوقفون عن نسخ الكتب وازجائها لخاصة القوم وطالبي العلم، وما تنفك روائح الطيب والبخور والتوابل تضمخ بعبقها أنوف العابرين، الذين يمر بعضهم كيما يمتع نفسه بتلك الروائح التي أضحت بمرور الأيام جزءً من هوية وذاكرة تلك الحواضر.
وأنت تعبر في صفحات هذه الرواية العجيبة لا يسعك إلا الاستمهال والتباطؤ المقصود، خشية أن تنقضي حكاياتها وتصل إلى نهاية مقاصدها، فتعود من تلك الأزمنة العجيبة الساحرة، إلى حاضر التفاهة الذي ينخر في تفاصيلنا كل حين.
تمتاز هذه الرواية بأنها لخاصة القوم وليست لعامتهم فهي غنية بشكل موسع في عرض محاورات ومسائل في الفقه والفلسفة والتصوف والمنطق يصعب على من لم يألفها أن يحيط بمغزاها وهذا أمر يندر وجوده عند الروائيين، كما تكتنز الرواية بلغة تخال أن شطرا مهما منها قد شارف على الاندثار فتشعر وانت تبحر في لججها أنك بحاجة لمجداف مترجم أو شارح للمعاني يعينك على فهم مقصد العبارة ومرمى سهامها وإن وعيت مضمونها من خلال السياق.
تمضي بك الرواية عبر المراحل التي انتقل فيها المعلم الغزالي، من ضلوعه وبروزه في الفقه والمنطق وشرح الفلسفة ونقدها، إلى مرحلة الشك التي أضجرت روحه وصولا إلى التصوف الذي سيبرئه من علل كثيرة أرهقته.
ستتبع الغزالي في اصغائه الفاتر لزوجته او جاريته، وهو يعاني من تشككه المشبع بالقلق والارتياب ” ألا يعلم الناس أن السهر بسبب الشكوك أشد من سهر الآلام المبرحة والأسقام الشديدة ولسع الحيات؟ يمضي شطر ليلته وهو يقلب النظر في عنوان كتابه “محك الناظر” ولماذا لا يسميه “ميزان العقل” ويستعرض في هذا الاستطراد الذهني ما ألفه مفصلا في المذاهب الأربعة، التي يتوزع وفقها الناظرون والساعون في أمور الغيب مع تشككهم فيه، فمن فرقة تعتقد بالحشر والنشر، كما أورده الشارع وأكدته النصوص في ظاهرها، ومنهم فرقة تجد في أن وعود اللذة والعذاب في الآخرة هي محض شأن عقلي تصوري، وبعيد كل البعد عن المباشرة الجسدية، وأن اللذة الحسية يمكن أن تحصل عن طريق التخيل الذهني كما يتلذذ أحدنا في الرؤيا، بينما تجد الفرقة الثالثة أن اللذة الحسية لا يمكن أن تحصل بمعزل عن الجسد، لا بالتعقل ولا بالتخيل الذهني، لذا هي لذات فوق حسية، أما الفرقة الرابعة فتجد ان الذي ينتظر الإنسان حال موته أمر واحد لا مفر منه، وهو عودته إلى العدم الذي منه أتى، وليس ثمت عذاب أو جزاء ينتظره، فهو يفنى بمطلق الفناء حين فناء جسده وانفصال الروح عنه.
وتمضي بك الرواية في ثلاث شعب، واحدة تحكي أحوال السلطنة والحكم والخلافة الشكلية، وواحدة تحكي قصة الامام الغزالي وهو يتقلب من مذهب إلى مذهب، ليكتمل منهجه ويتحدد اتجاهه، حصيلة تلك التجارب المليئة بالقلق والتشكك، وآخرة تحكي حال أهل بغداد ونيسابور وأصفهان وما اعتاد الناس عليه في حياتهم اليومية.
“” ثمة لحظات حرجةٌ يقف فيها المرء على رأس الميزان بين سعادته وشقاوته. يقف ينظر إلى كفتيْ القدَر تتأرجحان بين شقائه وسعادته، وقلبُه يخفق مع كل هزة للكفتين. لكن ثمة لحظة لا بد للمرء فيها من هجران التردد، والخروج من ضيق التردد إلى بَراح القرار الواثق، إلى رياحين الجنان، أو إلى لفحات النيران.
لحظة يحدد فيها من هو وما مصيره وما وجهته. لحظة ينعتق فيها حتى لو كانت الوجهة جهنم.. لحظة مثل لحظة تحرُّر الشيطان للشر وإغواء الناس، ولحظة قرار الأب بهجران أطفاله، وأمرِ الملك بقتل وريثه.. لحظة خروج أبي بكر لمناصرة النبي، ورمي خالد لسيف أجداده، وخروج عمر بن الخطب إلى دار الأرقم.
الإنسان لا يكمل إلا إذا اختار طريقا وصمم عليها…عليه أن يختار بين النجدين. وانعقد قلبه فجأة على ذلك القرار””.
عند هذه اللحظة الفارقة الحازمة يتخذ أبو حامد الغزالي قراره في الانغماس بالتجربة الصوفية فهي الطريق الوحيدة التي ستجعله يتذوق الحقيقة ويقبض بكلتا يديه على يقين طالما حلم به.
تخرج الرواية ، عن كونها رواية وحسب، فهي في شطرها الممتد على مفارق الصفحات تحفة لغوية، تعجم اللغة القديمة وربما المنسية في بعض الجمل والألفاظ، باللغة الفصحى الدارجة فتحيي الأولى وترفع من بهاء الثانية، هناك لغة عربية أصيلة تحكي لنا تلك الوقائع في تلك الأزمنة بذات اللغة التي جرت فيها آنذاك فلا يفوتك من روح الحكايات ورائحة الأماكن شيء، لأننا إن مضينا نحكي ما جرى في الماضي بمصطلحات اليوم لصار حديثنا طرفة من طرف الكلام، كأن نقول “كان الغزالي يؤلب العامة على النضال والثورة في مواجهة المحتلين”.
سيبقى الغزالي ساريا في عتمات تشككه حتى وهو في أعلى مراتب تبصره ويقينه، وسيبقى يتساءل ” هل وفقني الله لجمع ميراث الجويني مع ميراث الفارمذي؟ وهل هداني الله لتحقيق ذلك المسعى الشريف: عقدَ مصالحةٍ في علوم الدين بين الكلام والفقه، وبين المحمود من المنطق والفلسفة، والموروثِ من الحديث؟”.
تقع الرواية في ستمئة وثمانين صفحة، تتخطفك وقائعها من زقاق إلى آخر ومن مجلس إلى مجلس ومن محاججة فلسفية إلى معارضاتها، فلا تلبث تستزيد مستمتعاً من حكاياتها وتفاصيل يومياتها إلى أن تسقطك نهايتها مرة أخيرة وهي تعيدك مسرنماً بين الحلم واليقظة، إلى حجرتك التي تسمرت فيها وأنت مشدود إلى تلك الصفحات، لقد مات الغزالي وربما لم يسمع بموته ساعتها إلا ذلك الدرويش الصوفي الأفحج، إلى أن طارت حمامات الزاجل بذلك النبأ الحزين.