أبو ظبي – أنقرة – الناس نيوز ::
تطرح كارثة الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا، في 6 فبراير 2023، السؤال عما إذا كانت ارتداداته ستشكل «تحولاً تكتونياً» Tectonic Shift في علاقة الدولتين التي بدا أن مساعي تطبيعها أخذت في الدخول بحالة جمود (ستاتيكو) نتيجة تصادم طلبات طرفيها وشروطهما، وضعف الحافزية لديهما، خاصة بعد اقتراب موعد الانتخابات التركية، التي شكلت المحرك الأبرز لتوجهات الرئيس التركي رجب أردوغان نحو الانفتاح على مسألة التقارب مع دمشق. فهل تطلق كارثة الزلزال الأخير ديناميكية جديدة لتسريع عجلة التقارب البطيء بين الطرفين؟
وفي دراسة أعدها مركز الإمارات للسياسات، جاء فيها:
تغيُّر المعطيات
ذكَّرت كارثة الزلزال الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سورية، الجميع بأن البلدين هما في الأساس إقليم واحد، وربما لا يكون ذلك أكثر من تأكيد المؤكد، بالنظر للروابط الجغرافية والبشرية القوية بينهما، وما صنعته تداعيات عقد من الحرب من تداخلات سياسية وعسكرية وتشابكات ديمغرافية، لكنها اصطبغت بتفاعلات سلبية على الجانبين، عبر اندماجهما في صراع الأيديولوجيات والمشاريع الجيوسياسية المتنافسة، والحسابات السياسية المعقدة، التي بدا في نهاية المطاف أنها كانت مضللة بدليل أن محاصيلها لم تكن سوى استنزاف للطاقات والإمكانيات.
ورغم الزخم الذي حاولت روسيا ضخَّه في مفاصل العلاقات المتكلسة بين أنقرة ودمشق، والذي لامس رغبة تركية في التخفُّف من تداعيات الأزمة السورية، وخاصة في ملف اللاجئين الذي تحوّل إلى عنوان رئيس في الانتخابات التركية، فإن هذا الزخم اصطدم بحسابات سياسية من قبل الطرفين، بدا معها أن احتمالات انتكاس هذا المسار الوليد أكبر من إمكانية دفعه الى مستويات تستطيع معه أطرافه ترتيب طاولة مفاوضات تتناول مُجمل الملفات العالقة، ومن ثم بقائه ضمن أطر ضيقة تنحصر ضمن المستويين العسكري والأمني، ولا تتعدى مفاعيلها إدارة الصراع في شمال سورية وشرقها، أقلُّه الى حين التوصل إلى مقاربة ممكنة لمعالجة القضايا الأخرى.
لقد غيَّرت كارثة الزلزال بدرجةٍ ما المعطيات التي كانت سائدة، بالنظر لتغيّر الأولويات والظروف، بما يزحزح أركان المعادلة التي حكمت العلاقة التركية-السورية وتحكّمت بشروطها، حتى في ظل المبادرة الروسية لتسوية العلاقة بين الطرفين. ويمكن ملاحظة ظهور ديناميكيات جديدة على الجانب التركي، من المتوقع أن تنتجها كارثة الزلزال المدمر، ستكون على الأرجح محركات لدفع العلاقة مع الطرف السوري قُدُماً، ومن أهمها الآتي:
1. زيادة هجوم المعارضة على الحزب الحاكم: فقد بدأت المعارضة التركية شنّ هجمات إعلامية على استجابة حكومة الرئيس رجب طيب أردوغان للكارثة وأدائها، الذي تصوّره المعارضة بأنه لم يكن بمستوى إمكانيات تركيا ومكانتها. كما أن الحكومة الحالية لم تتخذ سياسات تحوطية ملائمة تجاه مثل هذا النوع من الكوارث الطبيعية المتكررة، وهي التي تحكم البلاد لأكثر من عقدين، وستحاول المعارضة استثمار ذلك في حملتها الانتخابية في مواجهة أردوغان، حيث يمكن للمعارضة التقاط الكثير من السلبيات لزيادة رجحان كفتها في الانتخابات المقبلة وإضعاف حظوظ أردوغان وحزبه إلى أبعد الحدود.
ومن واقع خبرتها الطويلة، تُدرك حكومة أردوغان أنها ستخوض، في الفترة الفاصلة بين كارثة الزلزال وموعد الانتخابات في مايو المقبل، مواجهة ليست سهلة مع المعارضة، وبما أنها لا تملك رفاهية الدخول في سجالات قد تُضعف من رصيدها الشعبي، فالمرجح أنها ستسعى إلى القيام بأفعال ملموسة تُشعِر الناخب التركي بجدية الحكومة التعامل مع مخلفات الكارثة. وفي هذا السياق، ستحاول الحكومة التركية استثمار الملف السوري عبر تسريع وتيرة الانفتاح مع دمشق، وبذل جهود أكبر لتسوية العلاقات بين الطرفين، لاسيما في ضوء الأوضاع الناشئة بعد الزلزال الذي ضرب مناطق جنوب تركيا، حيث تتركز غالبية اللاجئين السوريين، في وقت لم يعد تتوفر المساكن اللازمة لإيوائهم، الأمر الذي سيزيد من نقمة المجتمعات التركية ضدهم وضد حكومة أردوغان التي ستجد نفسها مضطرة لتقديم تنازلات أكبر للنظام في سوريا لقبوله استعادتهم، أو على الأقل جزء منهم، وتخفيف العبء على الحكومة التركية.
2. اللجوء لبدائل غير مكلفة: ثمة تقديرات عديدة بأن تداعيات الزلزال سيكون لها تأثير كبير على الاقتصاد التركي، الذي سيحتاج وقتاً طويلاً للتعافي من الآثار المدمّرة لهذه الكارثة، الأمر الذي سيؤثر بدوره على نشاط أنقرة الإقليمي. وفي ضوء ذلك، ستضطر حكومة أردوغان الى التخفيف من نفقاتها على هذه النشاطات، وفي نفس الوقت، إيجاد بدائل مناسبة للحفاظ على دورها وفعاليتها الإقليمية التي كلفت تركيا استثمارات هائلة.
والأرجح في هذه الحالة، أن تركز تركيا أكثر على الأدوات الناعمة، بدل الإنفاق على المعارضة السورية المسلحة، واللجوء الى الحوار السياسي والقنوات الدبلوماسية وتعزيز التجارة مع سورية وعبرها، باعتبار أن هذا التوجه قد يشكل حلاً أفضل للمعضلة التي تواجهها تركيا بناء على المعطيات الجديدة، والتي تحشرها ضمن معادلة من حدّين؛ إما الاستمرار في هدر الموارد على مشاريع لن تؤتي أُكلها في وضع جيوسياسي معقَّد ومُتقلِّب للغاية، أو الانكفاء داخلياً ومن ثمّ خسارة أكثر من عقدين من الاستثمار في بناء القوّة والحضور الإقليميين.
3. استثمار الفرصة: توفر كارثة الزلزال فرصة للقفز على الحواجز التي صنعتها الخلافات بين أنقرة ودمشق على مدار السنوات الماضية، وبالتالي التنازل عن الكثير من الشروط التي وضعها الطرفان للالتقاء واتمام المصالحة. كما قد يتوفر العذر لقيادة البلدين للتواصل والتوافق على سياسات معينة لمواجهة آثار الكارثة على المديين القريب والبعيد، وغالباً ما يكون للمآسي والكوارث التي تصيب الدول والأقاليم دور فعلي في إشاعة روح التضامن بين الخصوم، ووضع العديد من الحسابات السياسية جانباً، أو التخفيف من تأثيراتها قدر الإمكان، من أجل تحسين القدرة على إدارة هذا النوع من الأزمات الهائلة بفعالية أكبر.
وعليه، من المرجح أن يلجأ الطرفان إلى تنشيط خطوط التواصل بينهما، وربما الاتفاق على لقاءات على مستويات عليا في المرحلة المقبلة، إذ يفرض التعامل الدولي مع الكارثة تنسيق الطرفين سياستهما في الحد الأدنى تجاهها، لاسيما أن غالبية الدول أعلنت نيتها تقديم مساعدات للطرفين باعتبارهما ركني الكارثة الرئيسين، وفي مرحلة معينة قد تجد كل من أنقرة ودمشق نفسيهما أمام وضع يستوجب تنظيم هذه المساعدات بصورة فعالة، وخاصة تلك القادمة إلى الشمال السوري، والتي قد تستخدم مطارات حلب واللاذقية إذا استمر التعثُّر اللوجستي بين تركيا ومناطق الشمال نتيجة الأعطال والخراب الواسع الذي أصاب الطرقات.
الخروج من عُنُق الزجاجة: آليات وقيود
في هذه الحالة، قد لا يحتاج تنشيط العلاقة بين الطرفين إلى الآلية الثلاثية التي تشمل روسيا وتركيا وسورية، أو الرباعية بعد إضافة إيران إليها، والتي يبدو أن مسارها طويل، وقد تُخضِع الطرفين لتدخلات روسية وإيرانية في كيفية صياغة هذه العلاقة. ولذا ربما يكون من الأنجع لهما، في هذه المرحلة، الشروع في تكثيف التواصل المباشر والبدء بالملفات المستعجلة، مثل فتح طريق إم 4، الذي توجد توافقات بين الطرفين بخصوصه، فضلاً عن كونه يحقق مصالحهما التجارية، وسيكون له دور مهم في تلبية الإغاثة الإنسانية في شمال سورية وغربها.
وقد لا يعني ذلك أن الطريق باتت سالكة تماماً لإخراج العلاقات بين دمشق وأنقرة من عنق الزجاجة، إذ لا زالت هناك عوائق مهمة تكبح مسار التقارب التركي-السوري، من بينها الرفض الأمريكي لأي تطبيع مع النظام في سوريا حتى في ظل كارثة الزلزال، إذ لا ترى واشنطن في ذلك، على ما يبدو، مبرراً كافياً لمضي أنقرة ودمشق في تطبيع علاقتيهما. كما أن الحسابات السياسية قد تدخل على الخط من جديد، فقد يرى أردوغان، مثلاً، أن الوقت تأخر كثيراً لإمكانية توظيف ورقة التقارب مع النظام في سوريا في الانتخابات المقبلة، وأن ظهور مشكلات جديدة يُضعف هذه الورقة، أو أن يرى رئيس النظام السوري بشار الأسد أن أردوغان بات في موقف ضعيف جداً بعد الكارثة ولا بأس في رؤيته يغرق أكثر.