غادة بوشحيط – الناس نيوز ::
من النصائح التي تردد في الجزائر على مسامع كل مستثمر صغير، لا كبير علم له بعد بالمجال الذي يود المغامرة فيه، بضرورة التوجه نحو الاشتغال بالطعام فكل مشروع مرتبط بالبطن وأهوائها هو مشروع رابح، فلا كبير فلسفة (ظاهريا) يحكمه، كما أن سلم الحاجات البشرية يتأسس على الحاجة إلى الطعام والشراب. ويتفنن شباب المستثمرين في الاستثمار بالإطعام السريع الذي لا يكاد يخلو شارع في الجزائر منه، معيدا إنتاج وصفات غربية وشرقية لأطعمة يقبل عليها الجزائريون، مع تراجع لوصفات أكل الشوارع الجزائري الخالص.
وليس الإطعام السريع الوصفة الوحيدة الناجحة في الجزائر، إذ يعيش الجزائريون منذ شهور على أخبار تصدر الكثير من الطبخات الجزائرية التقليدية، حلوة ومالحة لقوائم أفضل الأكلات عالميا وعربيا على موقع “تايست أطلس” المتخصص في تقييم وتقديم مطابخ العالم وتصنيفها، كطبق الرشتة، طاجين الزيتون، مقروط اللوز وغيرها من الوصفات التقليدية، اعتراف عالمي يبدو أنه يصالح الجزائري مع واقعه، ويكفي لرصد الأمر متابعة ردود الفعل الكثيرة على مواقع التواصل الاجتماعي.
بل إن أهم قناة على اليوتيوب في الجزائر، هي قناة متخصصة في الطبخ، تقف خلفها امرأة تدعى أم وليد لا أحد يعرف وجهها، ولكن شهرتها تتجاوز شهرة بعض السياسيين بل حتى لاعبي كرة القدم، تتفن في تقديم وصفات من مطابخ عدة شعارها تبسيط الوصفات المتنوعة، جعلها أقل كلفة، لدرجة لا يتبقى من الوصفة الأساسية أحيانا غير الاسم فقط، بل يكفي اقتراحها لوصفة واحدة جديدة لاختفاء مواد من السوق خصوصا في المواسم المعروفة بتقاليد إعداد الطعام منزليا كشهر رمضان والأعياد الدينية المقترنة بطقوس معينة قد يكون الأكل أهمها. وقد صنفت هذه القناة من طرف وكالة أمريكية متخصصة (ناث وورث سبوت) منذ فترة قريبة بإحدى أكثر القنوات درا للمال، ما أثار حفيظة متابعيها.
ولأن الطعام على ما يبدو هو أكثر المشاريع ربحية في الجزائر تمكنت قناة تلفزية تدعى “سميرة تي في”، متخصصة في تقديم برامج الطبخ وحرف تحسب شعبيا على كونها نسائية كالخياطة التقليدية وغيرها من الأنشطة، في فرض نفسها داخل الفضاء السمعي-البصري الجزائري، منذ إطلاقها شهر يوليو/تموز 2013، سنة بعد فتح الفضاء السمعي البصري أمام الاستثمار الخاص وفق شروط بدا أن “سميرة تيفي” تستوفيها.
حتى أن القناة تقدم نفسها على مواقع التواصل الاجتماعي واليوتيوب كأول قناة طبخ متخصصة في المنطقة العربية، كما أنها أول قناة تطلقها امرأة. لكن الغريب أن القناة المتخصصة في شؤون المطبخ، دخلت منذ سنتين تجربة الزحام على برامج المنوعات، غرضها الظاهر إعادة إحياء التراث الجزائري المتنوع، كالقعدات الجزائرية التقليدية، تستضيف فيها فنانين ومشاهير، وإن ظلت تلك البرامج غير بعيدة عن أجواء مجال نشاط القناة الأساسي.
ولم تتوقف الغرابة هنا، فيبدو أن “سميرة تي في” قد قررت توسعة نشاطاتها خلال هذه السنة بولوج مجال الإنتاج الدرامي، لمسلسلات تلفزيونية خلال شهر رمضان، إذ يتابع المشاهد الجزائري حاليا سلسلتين تلفزيين كوميديتين: “عايلة شوك” و”دار لفشوش” على القناة المتخصصة بالطبخ، والتي تقف خلف إنتاجهما أيضا.
عملان تشرف عليهما أسماء لها رصيدها في عالم الدراما الجزائري كجعفر قاسم 1966 الذي يخرج مسلسل “دار لفشوش”، كما وقع قصة “عايلة شوك” “مزاحم يحيى”، السلسلة التي جمعت ثلة من الممثلين الجزائريين، على رأسهم القديرة فاطمة حليلو 1955. عملان يتجاوزان بكثير من حيث نصيهما وإخراجهما العديد من الأعمال التي تعرض على قنوات عامة، ولها رصيدها في التعاطي مع الإنتاجات التلفزية عموما.
وإن لم تتضح بعد ملامح السباق الرمضاني الحالي في الجزائر، تبقى تجربة قناة “سميرة تي في” مثيرة للتساؤلات وهي تكسر قواعد النوع الإعلامي الذي تنشط فيه، ربما لحداثة سن التجربة الإعلامية الجزائرية في القطاع الخاص عموما، التي تجاوزت بالكاد عشر سنوات، تلخص مهمتها في الاستثمار والكسب ولو على حساب الاحتراف، وربما لغياب شركات إنتاج سمع-بصرية كبرى بإمكانها تمويل مشاريع درامية ضخمة، في ظل انغلاق المشهد الجزائري في المجال على نفسه، وغياب إنتاجات مشتركة مع باقي دول المنطقة، رغم قدرة السوق الجزائري لوحده استيعاب عشرات الأعمال خلال وخارج فصل رمضان.
قد يفسر كل ما سبق سعي المخرجين وكتاب النصوص للبحث عن أي فضاء للعرض ومصادر تمويل لتقديم أعمال برؤية إخراجية وفنية خاصة بهم، بعيدا عن بعض القيود والحسابات السياسية والأيديولوجية التي قد تحكم فضاءات أخرى، بانتظار غد أفضل، قد تحترف فيه التجربة الجزائرية في المجال السمعي-البصري عموما، وينأى السياسي والأيديولوجي بنفسه عن صناعة الترفيه، الذي تتغير قواعد لعبته عالميا بولوج المنصات الرقمية المتخصصة على خط العرض والإنتاج، وفي ظل تحول وظائف وممارسات وسائل الإعلام التقليدية مرهونة بمستجدات المعروض الرقمي، وتحولات اقتصادية عميقة وسريعة تحكمها المعرفة ولا يشكل الإطعام من سوقها سوى النزر.