كتبت أكثر من مرة أن الثورة السورية تدين ببدئها وصمودها واستمراريتها إلى نشطاء درعا وأهلها، الذين لولا استمرار احتجاجاتهم لأسابيع في شهر مارس/آذار من عام 2011 لما استطاعت الثورة السورية أن تشق طريقها، ويقوى عودها حتى امتدت تقريباً إلى كل المدن السورية بدون استثناء.
اليوم ونحن نشاهد المفاوضات الماراثونية بين أهالي درعا وبين مخابرات الأسد، حيث تتناقل الفيديوهات صور حسام لوقا مدير إدارة المخابرات (أمن الدولة)، بقميصه الأزرق وسيجارته التي لا تفارق فمه ومؤيد العلي من المخابرات العسكرية، بقميصه الأصفر ووجهه الشاحب الممتلئ، تعابير الغضب والذهول من حجم الإذلال الذي يتعرض له، وهو لا يفهم سوى إعطاء الأوامر بالقصف وإسقاط البراميل المتفجرة على منازل المدنيين.
الصور والفيديوهات كانت صارخة في الدلالة بين نظام لم يتعلم درساً واحداً بعد 11 عاماً من الدمار والخراب، كان سببه “الجيش الوطني” الذي دمر وقتل وسلب وعفش هذا باختصار كل ما فعله، ولذلك وجد أهالي درعا العزل أنفسهم يفضلون الجيش الأجنبي “الروسي”، الأقل أذى وضرراً على “الجيش الوطني” الذي يرمز لهم بكل رموز الحقد والعصبية المقيتة وسوء النية.
تلك المفاوضات – إذا صح وصفها بالمفاوضات- ترمز بشكل ما وتختصر 50 عاماً من عمر هذا النظام ومخابراته، تتغير ألوان القمصان ويتغير نوع السجائر، لكن نفوس وعقلية شخوص المخابرات لا تتغير، بل إنها زادت عفونة ومقتاً وحقداً على السوريين وممتلكاتهم.
لقد توسط الجنرالات الروس في الاتفاق وذلك لتفادي حرب مدن دامية، بعد أعنف قصف شنته قوات الأسد التابعة للفرقة الرابعة على المدنيين في مدينة درعا وحصار استمر شهرين. ونص الاتفاق على رفع العلمين الروسي والسوري داخل منطقة درعا البلد، حيث اندلعت شرارة الثورة السورية السلمية ضد حكم عائلة الأسد في عام 2011 قبل أن تقوم قوات الأمن بقمعها، وتحول هذه الثورة إلى جرح دموي نازف ضد المدنيين لا يتوقف في حرب إبادة وقف المجتمع الدولي فيها شاهداً ومتفرجاً.
ما يمكن قوله هنا أنه في عام 2011 اشتعلت الثورة السورية في درعا، وفي عام 2012 تقريباً سيطرت المعارضة السورية على كل مناطق المحافظة باستثناء بقع صغيرة احتفظ النظام فيها بتواجد عسكري ضخم، وعندما جرت التسوية في عام 2018، حيث سيطر جيش الأسد، بمساعدة سلاح الجو الروسي والميليشيات المدعومة من إيران، لم يستطع النظام سوى الاحتفاظ بوجود رمزي هناك، وبموجب ذلك الاتفاق وبوساطة روسية سلّم ثوار درعا الأسلحة الثقيلة، لكن سُمح لهم بمواصلة إدارتهم لدرعا البلد. كما قدمت موسكو ضمانات لإسرائيل والولايات المتحدة في 2018، بأنها ستمنع الميليشيات المدعومة من إيران من توسيع نفوذها في المنطقة الحدودية الحساسة.
يعتقد النظام أن هذا الاتفاق سيكون مؤقتاً وسينتظر حتى تتغير الظروف التي يعتقد أنها تجري لصالحه، من أجل بدء عملية عسكرية جديدة في درعا، كما أنه يتحين الفرصة لعملية عسكرية جديدة في إدلب، ولذلك يمكن القول أن درعا في الجنوب وإدلب في الشمال يمثلان مصدر إذلال دائم للأسد الذي لا يستطيع استعادة السيطرة عليهما، ولن يستطيع في القريب العاجل، فثوار درعا ما زالوا يعرفون تماما معنى وعود الأسد وكذبه الدائم الذي اشتهر به دولياً.
ستبقى درعا خاصرة رخوة للنظام في الجنوب كما ستبقى إدلب مصدر وجع دائم للأسد في الشمال، حتى يحين اليوم ويتخلص السوريون من السرطان القابع على قلوبهم في العاصمة دمشق، وعسى أن يكون هذا اليوم قريبا.
رضوان زيادة