[jnews_post_author]
جميعنا شاهد ما حدث في مبنى الكونغرس الأميركي منذ أيام، والجميع يتفق على أن هذا التعدي على مؤسسات الدولة أمر مرفوض، لأنها جزء من الهوية الأميركية الجامعة وهي أكبر بكثير من الرئيس دونالد ترامب، المُحرّض الأول على حادثة اقتحام الكونغرس. حتى أساطين الحزب الجمهوري، ومنهم الرئيس السابق جورج بوش الإبن، أدانوا اقتحام المبنى، دفاعاً عن تلك المؤسسات وعن الشرعية التي تمثلها. ونحن اليوم أمام سابقة تاريخية قد تؤدي إلى عزل الرئيس ترامب في الأيام الأخيرة من ولايته، لأنه دافع عن مثيري الشغب وقال لهم “أحبكم” بدلاً من إدانتهم بأشد العبارات. وهذا حكماً سيؤدي إلى حرمانه من الترشح لرئاسة الجمهورية بعد أربع سنوات، إذا لم يؤد أيضاً إلى اعتقاله يوم خروجه من البيت الأبيض، بتهمة التعدي على الشرعية وعلى المؤسسات الدستورية.
هنا تأخذنا الذاكرة إلى حدث مشابه، حصل في سورية يوم 29 آذار 1949، يوم أمر حسني الزعيم قواته بالتوجه ليلاً إلى العاصمة السورية دمشق لاعتقال رئيس الجمهورية شكري القوتلي ورئيس حكومته خالد العظم، وضربِ طوقٍ أمني حول مبنى البرلمان في شارع العابد لمنع النواب من ممارسة عملهم الدستوري. حاول أحدهم، وهو رئيس الحكومة السابق لطفي الحفار دخول المجلس بالقوة، متذرعاً بالدستور الذي أقسم عليه، وقال: “لا يمكنكم منعي من ممارسة مهامي، فأنا نائب العاصمة دمشق.” فرد أحد العساكر باستخفاف قائلاً وهو موجه مسدسه إلى صدر الحفار: “شكري القوتلي وحبسناه، وإن لم تبتعد فوراً، سوف نضرب السلاسل في يديك ونرسلك إلى زنزانة مجاورة في سجن المزة.” تفرق النواب يومها أمام بنادق العسكر وتوجهوا إلى منزل رئيس مجلس النواب فارس الخوري، لعقد جلسة طارئة ومناقشة كيفية الرد على حسني الزعيم، الذي أمر بإغلاق المجلس وتعطيل الدستور وفرض الأحكام العرفية على البلاد. وهنا كان موقف فارس الخوري الشهير عندما قال: “لقد اندلعت النيران في البيت والواجب الوطني والعقل والضمير يفرض علينا التعاون لإخماد النيران أو حصرها قبل أن يشتد لهيبها فتأتي على الأخضر واليابس.”
بدلاً من تحدى حسني الزعيم وإيقافه عند حده، قرر نواب الأمة مهادنته، والاعتراف به حاكماً عسكرياً شرعياً للبلاد قبل أن يُنصب نفسه رئيساً للجمهورية في مطلع ذلك الصيف. ولم يكتفِ فارس الخوري بهذا فقط بل توجه إلى سجن المزة لإقناع صديقه شكري القوتلي بالاستقالة، أملاً أن ينفع ذلك بحصر النيران المندلعة في البيت الواحد. وافق الأخير على طلب الخوري وكتب استقاله بخط اليد جاء فيها: “أقدم للشعب السوري الكريم استقالتي من رئاسة الجمهورية السورية، راجياً له العز والمجد.” لم يوجه استقالته إلى صانع الانقلاب ولا إلى المجلس المنحل، بل إلى الشعب الذي انتخبه قبل ست سنوات وأعاد انتخابه عام 1947.
وهنا كانت بداية سلسلة من التنازلات المؤلمة من قبل السياسيين المدنيين، حوّلتهم جميعاً إلى لقمة سائغة أمام العسكر، وأدت إلى طحنهم مجتمعين منذ ذلك اليوم وحتى الآن. فقد تجاوزهم العسكر مراراً خلال سلسلة الانقلابات التي عصفت بالبلاد ما بين 1949-1954، ومن ثم يوم سفر وفد من العسكريين إلى القاهرة في 11 كانون الثاني 1958، للمطالبة بقيام وحدة اندماجية مع الرئيس جمال عبد الناصر، دون أخذ موافقة رئيس البلاد أو مجلسي النواب والوزراء. يومها قال لهم عبد الناصر: “تُشكرون على حماسكم ولكنكم لا تمثلون سورية، فأين رئيسكم وأين هم نوابكم؟” فأجابه أحد الضباط: “بدك شكري القوتلي؟ بكرا منجبلك ياه لهون لعندك يا سيادة الرئيس!” وكان باستطاعة الرئيس القوتلي (الذي عاد إلى الحكم سنة 1955) أن يُعيد الأمور إلى نصابها ويأمر باعتقال هؤلاء الضباط بتهمة التعدي على الشرعية، ولكنه لم يفعل، خوفاً منهم ومن وقوع أي انقلاب جديد. فقرر أن يمشي على خطى فارس الخوري وبدلاً من اتخاذ موقف شجاع ضد العسكر، قرر شرعنة وفدهم عبر إرسال وزير الخارجية صلاح البيطار إلى القاهرة للتفاوض باسم الدولة السورية.
لو ساد هذا التفكير الانهزامي في واشنطن يوم 6 كانون الثاني 2021، لتغير وجه الولايات المتحدة الأميركية، تماماً كما حصل في سورية قبل 72 سنة. من انتقد موقف الرئيس ترامب من السياسيين الأميركيين (جمهوريين كانوا أو ديمقراطيين) كان يدافع عن رمزية الكونغرس وشرعيته، لا عن نانسي بيلوسي أو جو بايدن. ولكن في سورية يوم الانقلاب الأول، لم يُدافع أحد عن شرعية المجلس النيابي أو عن الرئيس القوتلي…بكل أسف…ومشي السياسيون والناس معاً خلف الأقوى. لو كان من بينهم يومها رجل رشيد، لوقف في وجه حسني الزعيم وطالب باعتقاله فوراً وإعدامه رمياً بالرصاص، لأنه تعدى على الشرعية. ولو حصل ذلك، لكانت سورية فعلاً منعت اشتداد النيران في البيت الواحد، لكي لا تأتي “على الأخضر واليابس.” ولكن النيران اشتدت بسبب ذلك الانقلاب وضعف السياسيين المدنيين، ونجحت فعلاً بالقضاء على كل شيء.
أمير سعادة