محمد برو – الناس نيوز :
آلان دو بوتون
في هذه الرواية المرحة الحكيمة، الغنية بأدق التفاصيل اليومية التي لا نلقي لها بالاً، والتي إن غابت عن حياتنا تركتنا في فراغ مخيف، يبهجنا مؤلف “عزاءات الفلسفة“، الفيلسوف الانكليزي “آلان دو بوتون” الذي يعتبر واحدًا من أكثر المؤلفين الحديثين شهرة وتأثيراً على مستوى العالم، في تتبعه لذلك المسار الغامض والجميل والمعقد للعلاقات الرومانسية. فنحن جميعًا نعرف كم تكون أيام الحب الأولى مثيرة ومذهلة. لكن، ماذا بعدها؟
يقع الشاب رابح والفتاة كريستين في الحب.. يتفتّح الافتتان بالآخر.. ثم تمضي المسارات بعدها في الطريق التي ألفناها مراراً في هذه الحياة بعد ذلك. يتزوجان وينجبان، لكن العلاقة على المدى البعيد لا تكون بسيطة، إذ تتغير مشاعرهما بعد أن تعصف بهما ضغوطات المعاش اليومي، وعبر قصة رابح وكريستين نرى بسطًا لفلسفة الحب الذي حار في شرحه الشارحون، وربما يكون هذا الغموض وراء انشغال واهتمام الشعراء به، فالشاعر يباح له الإيغال في تهويماته الصوفية، والتحليق بخياله فوق ما تتقبله حدود المنطق وأفق المعقول.
“بالنسبة إلى شخصٍ رومانسي، قليلة جداً هي الخطوات الفاصلة بين الرؤية الخاطفة لشخصٍ غريب، وبين تكوين استنتاج جوهري مهيبٍ جليل: استنتاج مفاده أن ذلك الشخص قد يكون إجابة نهائية شاملة عن أسئلة الوجود غير المعبر عنها”
الحب هو الموضوع الأثير لدي بوتون؛ ومجددًا يُظهر ما يتمتع به من قدرة على ملامسة ما لدينا من مخاوف وآمال وأفكار. والحصيلة تجربة حسّية، روائية وفلسفية ونفسية، تجعلنا نفكر في تجربة الحب بوصفها حكاية منعشة، شديدة الإغراء والجاذبية.
“هناك لا يبدأ الزواج بعرض الزواج، ولا حتى في اللقاء الأول، يبدأ قبل ذلك بزمن طويل، عندما تبدأ فكرة الحب، وعلى نحوٍ أكثر تحديداً، يولد مع الحلم بشقيق الروح“
يبدع بوتون في بنائه الهندسي لعالم الرواية فيجعلها عبر مسارين متوازيين ما أن تنتهي من شطر من مسار حتى يسلمك طواعية للمسار الثاني وهكذا دواليك، فأنت تتنقل يمنةً ويسرةً عبر مساربه التي تسبح بك تارة في السردية الحكائية وتوالي القصص والأحداث المغرقة ببساطتها، ثم ما تلبث أن تسلمك إلى ما يشبه اللغة التقريرية التي استنبطت من الحكايات قواعد فلسفية، وتحليلات تضارع مخرجات علم النفس.
فبينما هو يحدثك عن النزق الذي يعتري رابح وكريستين في نقاشهما المتكرر، حول تفاصيل الحياة اليومية، تلك التفاصيل العادية التي طالما مررنا بها دون اكتراث، كفتح النافذة ليلاً في حجرة النوم، أو اختيار يوم محدد للذهاب إلى السينما، يتوقف ليقرر (إننا نتقبل التعقيد في القسم الأكبر من المجالات المهمة في حياتنا، ونترك حيزاً للاختلاف وحله، الذي لا بد له من صبر، في مجال التجارة والهجرة وعلوم الطب، أما عندما يكون الأمر متصلاً بالوجود البيتي ، فإننا نكون أكثر ميلا إلى افتراض خطير مفاده “أنَّ الأمر سهلٌ، وأنه واضحٌ“، وهذا ما يثير فينا بدوره إحساسا بالنفور إزاء المفاوضات التي تمتد زمناً طويلاً، لمناقشة ترتيب الحمام أو تحديد الوقت المناسب للخروج من البيت).
وهو يقسم روايته التي يبسط فيها شيئاً من نظرته للحب والحياة الزوجية على وجه الخصوص، بتقسيمها إلى خمس مراحل أو فصول.
“الرومانسية، طيلة العمر، الأطفال، الخيانة الزوجية، ما يتجاوز الفلسفة الرومانسية” هكذا تسير وقائع حياة رابح وكريستين عبر صفحات الرواية، التي أرادها بوتون أن تحكي النمط الأكثر شيوعاً لشكل العلاقات الزوجية، التي تبدأ بالحب وتنتهي بما يسميه ” ما يتجاوز الفلسفة الرومانسية” .
في ختام تلك الرحلة الجميلة من تراكب الأشياء البسيطة والعادية وتراكمها، الفرح والغضب والندم والنزاعات الطويلة، حول أشياء مهمة وأخرى تافهة وصغيرة، تلك التي شكلت حياتهما على نحوٍ غير متوقع، وربما غير مفسر أيضاً، تلك الحياة الطويلة التي لا تشبه حياة أيٍّ منهما منفرداً، ليس لهما إلا أن يشعرا بالامتنان لها، لما منحتهما من فرصة لفعل ما فعلاه، وبناء تلك الحياة الحافلة معاً.
وهو يختم بعبارته “قد لا يكون الحل كامناً في بدء حياة جديدة، بل في تعلم النظر إلى الحياة القديمة بعينين أقل سأما واعتيادا“.
بقي أن أوجه تحية كبيرة للصديق المترجم الحارث النبهان الذي يملك شغفاً بالترجمة صرفه عن عمله كمهندس ميكانيك فتفرغ لترجمة ما يربو على أربعين مؤلفا أثرى بها مكتبتنا العربية
يقع الكتاب في 300 صفحة من القطع المتوسط
طباعة دار التنوير 2020
ترجمة الحارث النبهان