أمير سعادة
في مذكراته المنشورة في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، يقول الأمير عادل أرسلان، وهو سياسي لبناني عمل طويلاً في سورية، إن الجمهورية اللبنانية كانت معرضة للزوال منذ إنشائها في عهد الانتداب الفرنسي، لأنها بُنيت على أساسات خاطئة. وكان هذا سبب رفضه المشاركة في عهد رئيس الجمهورية بشارة الخوري (1943-1952)، الذي عرض عليه تولّي رئاسة الحكومة في لبنان، ولكنه اعتذر وفضل أن يكون وزيراً للمعارف في سورية في زمن الرئيس شكري القوتلي، ثم للخارجية في عهد حسني الزعيم. وقال إن منصب وزير في دولة متماسكة خير له من رئاسة الحكومة في دولة ضعيفة ومتضعضعة.
معظم الباحثين يعودون إلى مذكرات الأمير عادل لمعرفة خفايا السياسة السورية في أربعينيات القرن العشرين، مع تجاهل ما فيها من تفاصيل مذهلة عن الحياة السياسية في لبنان، ربما عن جهل أو عدم معرفة.
يحدثنا الأمير عادل عن الطروحات التي رافقت ولادة دولة لبنان الكبير سنة 1920 ويقول: “إن هوية الجمهورية لم تكن ثابتة، وأن الفرنسيين فكروا جدياً بتحويلها إلى إمارة يحكمها شخص ماروني يعاونه وزيران فقط لا غير، واحداً للداخلية وآخر للخارجية، يتم توزيعهم على الطوائف السنية والدرزية فقط”. ولا يخفي الأمير عادل إعجابه بهذا الطرح الذي يقول إنه يتناسب أكثر من مساحة لبنان وتاريخه وإمكانياته، مضيفاً، أن هذا البلد الصغير لا يصلح أن يكون كبيراً أو أن يصف نفسه بأنه “جمهورية.” وفي الجزء الثاني من مذكراته، يقول الأمير عادل إن الفرنسيين ظلّوا في حيرة من أمرهم حيال لبنان الكبير حتى منتصف الأربعينيات، عندما فكروا جدياً بجعل الشيخ بشارة الخوري رئيساً مدى الحياة، وذلك للإطاحة بنظام لبنان الجمهوري الذي كانوا قد أوجدوه. ولكن هذا الطرح أجهض مع انسحاب الجيش الفرنسي عن سورية ولبنان مع نهاية الحرب العالمية الثانية، ليسقط الرئيس الخوري من قصره في وجه انتفاضة شعبية أطلقت ضده سنة 1952، قادها عدد من السياسيين الكبار، منهم كمال جنبلاط وكميل شمعون، الذي خلفه في رئاسة الجمهورية.
لا نعرف إن كان الرئيس ميشيل عون قد قرأ مذكرات الأمير عادل أرسلان أو إن كان يحتفظ بنسخة منها في مكتبة قصره. ولو فعل لعرف أنه ليس أول من فكر بحكم لبنان مدى الحياة، لأن السابقة سجلت لبشارة الخوري من قبله. من المفترض أن يكون الرئيس عون ضليعاً بتاريخ بلاده وتحديداً في المرحلة التي عاشها في طفولته وشبابه المبكر. كان في العشرين من عمره يوم الإطاحة بحكم بشارة الخوري، الذي سقط في الأوساط المسيحية أولاً، بسبب مهادنة المسلمين السنة، وجعلهم شركاء في الحكم عبر الميثاق الوطني الذي أبرمه شفهياً مع الرئيس رياض الصلح سنة 1943. وكان رد رئيس الجمهورية الأسبق إميل أده خير دليل على مشاعر المسيحيين في حينها، عندما قال: “لبنان بلد مسيحي، فليذهب المسلمون إلى مكة”. غضب الموارنة من بشارة الخوري وثاروا ضده، وكان لتجاوزات نجله الشيخ خليل دور رئيس في إسقاط عهده، نظراً لفساده المعروف وتجاوزاته المتكررة.
الميثاق الوطني مع رياض الصلح لا يختلف كثيراً، من وجهة نظر الموارنة، عن اتفاقية مار مخايل المبرمة بين ميشيل عون وحسن نصر الله سنة 2006. الميثاق الوطني ضمن دعماً سنياً للرئيس الخوري، مقابل تثبيت أحقية السنة برئاسة الحكومة، واتفاقية مار مخايل ضمنت دعماً شيعياً للرئيس عون، مقابل شرعنة سلاح حزب الله. وتجاوزات الشيخ خليل الخوري لا تختلف كثيراً عن تجاوزات جبران باسيل اليوم، صهر رئيس الجمهورية، علماً أن الخوري الابن لم يكن رئيساً لأكبر كتلة نيابية في لبنان ولم يُفكر بقضية التوريث بالمطلق.
الجميع يعلم أن جبران باسيل يضع نصب عينيه كرسي الرئاسة في قصر بعبدا، فور انتهاء ولاية عمّه الرئيس في أكتوبر/تشرين الأول 2022. ولكنه يعلم أيضاً أن طريقه معبد بالتحديات، ابتداء من حصوله على دعم غالبية أعضاء مجلس النواب، وصولاً إلى موافقة رئيس الحكومة على توريثه.
لو نجح الرئيس سعد الحريري في تشكيل حكومة، لكان من المفترض أن تكون حكومته آخر حكومة في عهد عون، ويكون هو المسؤول عن اختيار رئيس البلاد الجديد في خريف العام المقبل، بالتوافق والتشاور مع القصر الجمهوري. كان من المستحيل أن يقبل الرئيس الحريري بتنصيب جبران باسيل خليفة لميشيل عون، فعمل التيار الوطني الحر على إسقاطه بشتى الوسائل المتاحة، وقد نجح بذلك قبل أيام عندما اعتذر الحريري عن التكليف بعد ثمانية أشهر من المفاوضات. العراقيل التي وضعها باسيل أمام الحريري معروفة جيداً، ومنها إصراره على الثلث المعطل وعلى تسمية كافة الوزراء المسيحيين، علماً أن في لبنان أحزاب مسيحية كبيرة، لها تمثيل جيد في البرلمان وحق في تمسية وزرائها، مثل حزب الكتائب وتيار المردة والقوات اللبنانية. ولم يكتفي جبران باسيل بهذا الحد، فطالب بحقائب سيادية كانت من حصة تيار المستقبل، ومنها وزارة الداخلية التي طالما كانت في يد شخصية سنية، ما جعل فرص التفاهم بينه وبين الحريري معدومة.
اعتذار الحريري أزال عقبة رئيسة أمام طموحات جبران باسيل، ويجري العمل الآن على اختيار رئيس حكومة جديد، يكون أكثر انصياعاً لرئيس الجمهورية وحزبه وصهره. لو ترك الأمر لجبران باسيل لأبقى على رئيس الحكومة الحالي حسان دياب، الذي قام باسيل باختياره بنفسه مطلع العام 2020، علماً أنه دخيل على مجتمع رؤساء الوزراء وليس له رصيد داخل الطائفة السنية، ولا خبرة تذكر في الحكم، إلا تجربة وزارية قصيرة تولّى فيها حقيبة التربية قبل سنوات. وكان هذا الضعف هو سبب اختياره لرئاسة الحكومة، كونه مجرد من أي سلاح يمكنه رفعه في وجه باسيل، فلا حزب له ولا عائلة سياسية تقف خلفه أو كتلة نيابية. والخيار الآخر البديل المطروح اليوم هو نائب بيروت المستقل فؤاد مخزومي، رجل الأعمال الثري الطامح للوصول إلى السراي الحكومي بأي شكل من الأشكال. قد يكون أكثر متانة من حسان دياب بسبب ثروته الطائلة، وعلاقاته الجيدة بدول الخليج ولكنه يبقى ضعيفاً لأنه لا يملك كتلة نيابية أو حزب حقيقي، وليس له جذور سياسية متينة. ولكنه ومثل حسان دياب سيكون مديناً في منصبه لجبران باسيل، ولن يعارضه عند طرح نفسه لانتخابات الرئاسة.
أما عن العقبة الثانية أمام جبران باسيل، فهي في حصوله على موافقة ثلثي مجلس النواب لترشيحه. حالياً يتحكم التيار الوطني بأكبر كتلة نيابية في مجلس النواب، 29 مقعداً من أصل 128، وله حلفاء قادرين على دعمه. ولكن ولاية هذا المجلس تنتهي في شهر مايو/أيار المقبل، ومن المستبعد أن يتمكن جبران باسيل من حصد نفس عدد المقاعد في أي انتخابات نيابية مقبلة، لأنه يتحمل وزر الانهيار المخيف الحاصل في لبنان على جميع الأصعدة الأمنية والاقتصادية والسياسية. لذلك يحاول باسيل جاهداً إلى تمديد ولاية هذا المجلس، متذرعاً بالأوضاع الأمنية في البلاد وعدم قدرة الدولة ضمان انتخابات حرة وآمنة. ولكن هذا الطرح مرفوض من المجتمع المسيحي برمته، وتحديداً من قبل تيار المردة الذي يُريد رفع من حصته النيابية لإيصال زعيمه سليمان فرنجية إلى الرئاسة الأولى خلفاً لميشيل عون (كتلته النيابية الحالية صغيرة جداً، لا تتجاوز ثلاثة نواب). وينطبق هذا الأمر على القوات اللبنانية، التي يسعى زعيمها لخلافة عون ولن يقبل برئاسة باسيل بأي شكل من الأشكال. كما أن موضوع التمديد مرفوض دولياً وقد أعرب عن ذلك وزير خارجية فرنسا خلال زيارته الأخيرة إلى لبنان، قائلاً أن مبادرة الرئيس إمانويل ماكرون تختصر اليوم على إجراء الانتخابات النيابية في موعدها، أملاً أن يؤدي ذلك إلى تغيير حقيقي في البنية السياسية اللبنانية.
بذلك يكون جبران باسيل قد أزال عقبته الأولى في الوصول إلى الحكم عبر الاطاحة بحكومة سعد الحريري، وعليه الآن ضمان وصول شخصية سنية إلى الحكم لن تقف في وجه طموحاته الرئاسية. أما العقبة الثانية، فما زالت موجودة وحاضرة بقوة، وهي دعم مجلس النواب المقبل. ولكن باسيل ومن خلفه الرئيس عون، قد بدأ يُفكر بخطة شيطانية جديدة، وهي التلويح بتمديد ولاية رئيس الجمهورية إلى أجل غير مسمى، بسبب الانهيار الكامل الحاصل في البلاد الذي وبحسب قوله، لا يسمح بتغيير رئيس الجمهورية. وبذلك يكون باسيل قد وضع اللبنانيين أمام طرحين، كلاهما مر: إما أن يكون هو رئيساً للجمهورية أو أن يبقى عمه في قصر بعبدا حتى الممات. ويكون باسيل أعاد عقارب الساعة إلى الوراء، إلى الطروحات التي جاءت في مذكرات الأمير عادل أرسلان، عن رئيس مدى الحياة للجمهورية اللبنانية يحولها من جمهورية إلى ملكية، دون الأخذ بعين الاعتبار مصير الرئيس بشارة الخوري وكيف أنهى حياته السياسية. تماماً كما يفعل عون اليوم، فقد حاول الرئيس الخوري جعل نفسه رئيساً مدى الحياة، وهو الانتخابات الرئاسية لسنة 1948 قام بتجديد ولايته. ولو سمحت له الظروف لكان سعى إلى ولاية ثالثة ورابعة وخامسة، ولكن تدخل القدر، والشارع اللبناني الغاضب، ومنعه من ذلك.