[jnews_post_author]
تابعنا مونديال عام 1986 برفقة محمود درويش، وكنا مجموعة من الأصدقاء أغلبنا يعمل في مجلة “اليوم السابع” الأسبوعية التي كانت تصدر من باريس، جوزيف سماحة، سمير قصير، إبراهيم العريس، رياض هيجر، وأنا. وفي أغلب الأوقات كنا نلتم في منزل الصديق رياض هيجر وزوجته في ذلك الحين هالة قضماني. جرت تلك الدورة في المكسيك، ومن أسباب حماسنا ومتابعتنا كانت مشاركة عدة فرق عربية من العراق والمغرب والجزائر، ولكن الأكثر إثارة فيها كان المهارات الفردية التي برزت عند عدة لاعبين لكن دييغو مارادونا كان نجم ذلك المونديال، والاكتشاف الأكبر الذي سيصبح ظاهرة كونية ينسج الناس من حولها الأساطير ويكتبون المقالات ويصنعون الأفلام، ولعل من أهمها فيلم المخرج البوسني أمير كوستاريكا الساحر الذي عرضه في مهرجان كان، وعينه على السعفة الذهبية التي حازها مرتين.
بالنسبة لنا كان هناك حدث إضافي لنا هو متابعة درويش للمونديال، وحرصه على حضور مباريات بعض الفرق، ولم نكن نعرف عنه غرامه بكرة القدم إلى هذا الحد، رغم أنه كان يردد بأنه من الممكن أن يعطل أي شيء مقابل أن يشاهد مباراة كبيرة لكرة القدم، ووصفها في كتابه “ذاكرة النسيان”، بأنها “ساحة التعبير التي يوفرها تواطؤ الحاكم والمحكوم في زنزانة الديمقراطية العربية المهددة بخنق سجانها وسجانيها معاً.. هي فسحة تنفس تتيح للوطن المتفتت أن يلتئم حول مشترك ما”.
وكانت فرحة درويش عارمة وهو يتابع مارادونا، وانحاز له من زاوية البطل الذي نعلق عليه الأمل في أن يعيد بقدمه كتابة التاريخ، وجرى التعويل عليه في أن يرد على الهزيمة العسكرية التي ألحقتها بريطانيا ببلاده في النزاع على جزر الفوكلاند عام 1982. وهذا ما حصل عندما هزمت الأرجنتين بريطانيا. وبالنسبة للكثير من القراءات الثقافية للرياضة هذا نوع من نكاية التاريخ والتفوق المضاد على الخصم المسلح بأسلحة ناعمة، وهذا الروائي الأميركي صاحب ثلاثية نيويورك بول أوستر يرى في مباريات كرة القدم حروبا معاصرة “البلدان تخوض حروبها اليوم في ملاعب كرة القدم، بجنود يرتدون “الشورتات”، وإذ يفترض أنها لعبة تستهدف التسلية غير أن الذاكرة الخفية لصراعات الماضي تخيم على كل مباراة، وكلما أحرز لاعب هدفا تتردد أصداء الانتصارات القديمة”. وقد ركزت الكثير من الصحف على القراءة من هذه الزاوية حيث إن أحد أسباب التعاطف مع مارادونا هي أنه لاعب كرة القدم القادم من الأحياء الشعبية، ومثله كثيرون في أميركا اللاتينية وأفريقيا وأوروبا، ومن دون شك فإن زين الدين زيدان وليليان تورام غيّرا من نظرة المجتمع الفرنسي إلى العرب والأفارقة كون القسط الأكبر من فوز فرنسا بكأس مونديال 1998 يسجل لهما، وخاصة زيدان الذي سجل هدفين في المبارة النهائية مع البرازيل.
مقال درويش بعنوان “مارادونا.. لن تجدوا دماً في عروقه بل وقود صواريخ” كان خروجا على النظرة السائدة في العالم للكرة ، حيث كان الدارج أن المثقفين ينظرون بتعالٍ إلى هذه اللعبة حتى أن توفيق الحكيم وصف اللاعبين بأن “عقولهم في أقدامهم”، ولكن هناك لاعبين من بين الكتاب مثل نجيب محفوظ الذي كان حارس مرمى وصاحب لوليتا نوباكوف والشاعر يفغيني يفتشنكو وكلاهما حارس مرمى، وكان مونديال عام 1998 في فرنسا مناسبة للاحتفال الثقافي بالساحرة المستديرة، فأصدرت صحيفة ليبراسيون ملحقا خاصا عن كرة القدم شارك فيه كبار الكتاب العالميين، وكان بمثابة وثيقة تاريخية تسجل لأول مرة موقف الكتاب من هذه الرياضة، وتبين أن غالبية اولئك الكتاب لا يفوتون مونديال وكل منهم لديه فريق يشجعه وتختلف أسباب كل واحد منهم في النظر إلى اللعبة، والطريف في ذلك الاستطلاع أن الكاتبات أكثر اهتماما ومتابعة لكرة القدم من الكتاب، وتبين هذا على ارض الواقع من خلال متابعة مباريات المونديال في المقاهي والشوارع حيث تطغى نسبة النساء على الرجال.
وهناك جانب المتعة في متابعة كرة القدم، وهذا هو المشترك مع الكتابة والفن على العموم، وهو ما صدر في قراءات الكثيرين من الكتاب الكبار لكرة القدم، وتساءل درويش ذات مرة “لماذا لا تكون كرة القدم موضوعا للفنّ والأدب؟”. وكان يرى في زين الدين زيدان أعظم لاعب كرة قدم في العالم خلال ذلك الوقت، وكان يستغرب لماذا لم تستفد منه الجزائر قبل أن يلعب بالقميص الفرنسي.