[jnews_post_author ]
يظهر الإيمان بما يُسمّى بالقوى الغيبيّة والماورائيّة عند الناس بصورة ملحوظة أيّام الشدائد والمحن، تلك طبيعة قسمٍ كبيرٍ من البشر، ومَرَدُّ ذلك إلى المفاهيم الدينيّة الموروثة على اختلاف مشاربها، من أيّ نبعٍ أتَت، لتفسير ما لا تشعر به الحواس أو يُدركه العقل، وهذا مألوفٌ على مرّ التاريخ، حيث كانت الطبيعة ولم تزل لُغزاً محيّراً للعقل بقِواها غير المفهومة، والتي لم يُستطع سبر أغوارِها بعد، من خِلال المَنطق الذِهْني لفِكر الإنسان، واللّافت للإنتباه في الأزمة الجرثوميّة والعضويّة التي تجتاح العالم، هو خضوع الكثيرين لما يُشار إليه بالمشيئة الربّانيّة، أو الإتكال على الخالق، لمُجابهة خطر الإصابة بالمرض ولربّما الموت من التقاط ” ڤيروس كورونا ” المتشعّب الجديد، ونرى ذلك واضِحاً وجليّاً في المُجتمعات العربيّة، إن كانت في أوطانها الأم أو في بلاد الإغتراب، حيث اعتادت تلك المُجتمعات على القدَرَيّة المُتوارثة، في مسارها الحياتيّ، وأيضاً في تكيّفها العَمَليّ مع الإهتمامات والأمور المعيوشة ضمن بوتقة العائلة والمُجتمع.
لقد انتشرت في وسائل الإتّصال ” الإلكتروني ” وشبكاته المُتعدّدة، تسجيلاتٌ صوتيّة ومصوّرة، تحوي صلوات وأدعية لردّ الجائحة العصيبة، وكذلك تحليلاتٌ لما يحصل من أحداثٍ كارثيّة، على أنّها من فعل الباري، وتصوير الأمر كفعلِ إرادةٍ إلَهِيّة لمُعاقبة البشر أو تجربة الناس في خضوعهم لأوامره وإرشاداته، وبأنّه هو المُسبّب والدافع لكلّ هذا.
لا يُمكننا هنا إقصاء فكرة عدم فهمنا لطبيعة الأزمة العالميّة الحاليّة، وأنّ كلّ ما نقوله، لا يعدو كونه تخميناً وتقديراً، وأنّه لا يُقارب الحقيقة أو واقع الحال، وذلك لوجود الكثير من الثغرات في منطق البحث والإستقصاء، والمقالة هذه لا تعرض ولا تُشير إلى الرأي الجازم بالصواب أو الصحيح المُطْلق من جهة تفسير أزمة الوباء أو الطريق إلى العافية منه، كلّ ما في الأمر أنّ هذا النصّ يطرح سؤالاً بديهيّاً لا ينكره المُطّلعون، لماذا لم يزل العرب، أينما كانوا في العالم، عاجزين عن ركوب مسارات العصر؟ في التطوّر العِلمي والإنفتاح الذِهني نحو آفاق المعرفة التي تُماشي مواضيع هذا الزمن، المليء بالتعقيدات، من أجل إيجاد الحلول لمشاكلهم، التي أكثر ما تُعاني منها شعوبهم، الغارقة في الإنكفاء والتقهقر عبر الحروب والإنغلاق في الفِكر المُتحجّر الذي عفا عنه الزمن.
القَدَرِيّة والتوكّل والرضوخ إلى المُسلّمات المُتوارثة في فهم مسلكيّة الإنسان، وتعامله مع القِوى الطبيعيّة منها والمُفتعلة، هي سمة تعامل العربيّ في التعاطي مع واقعه الحاضر والمُتوقّع لمستقبله، وهي أكثر ما يُعيق تطورّه من أجل الأمن والسلم الوجودي، على الصعيد الفردي والجماعي، وها هي أزمة وباء ” الكورونا ” تتفاعل أينما كان في العالم، ولا أحد يعرف كيفيّة معالجتها بشكلٍ جذري وبصورة قطعيّة، وحتّى ولو عُرفت أسبابها ومسبّباتها، المُعلنة رسميّاً أو المُتداولة إعلاميّاً، يبقى الكثير من التساؤلات المُهمّة، والتي تأخذ شأواً بعيداً للوصول إلى أجوبةٍ وافيةٍ لها أو تحليلٍ منطقيّ، رغم كلّ هذا، نرى العرب وغيرهم من الشعوب المغلوب على أمرها، تحاول مُداراة المُشكلة، بدفن رؤوسها في الرِمال، إتّقاءً للعاصفة أو هرباً من الخطر الداهم، من غير أن تتحرّك لفهم الأُحجية وحلّها، بما لديها من إمكانيات – إذا توفّرت وهذا مستبعد – وتلجأ إلى الإستعانة بتقليد الغرب أو الشرق، للتعامل مع الوضع الراهن، وبعد أن تصل إلى الطريق المسدود وتواجه الواقع الأليم، نرى تلك الشعوب تتوجّه بالمُشكلة إلى السماء، معلنةً ضعفها وعجزها عن التصدّي لما تُعاني منه، وتصل إلى التسليم والتوكّل على ما تعتقده من قوّة غيبيّة تُحرّك كلّ ما في الوجود، وهذا صحيح بالمُطلق العِلمي والنظري، ولكن !!!
لا شكّ أنّ الكون هو منظومة لها منطقها الحركي، وقوانينها المُركّبة عليها، وهي ناتج العلّة الأولى، لكنّ هذا كلّه لا يجعلنا نعتقد بأنّ الإنسان مخلوقٌ تُسيّره الطبيعة، نافين وجود العقل المُغيّر والمُتحكّم ولو على شكلٍ نِسبيّ بما حوله. ولا نريد هنا الدخول بإشكالية الحتميّة والإمكانيّة وفلسفتها من دون جدوى، حيث لا يُمكننا الوصول إلى قناعة مُطلقة في الجواب. ما يهمّنا هو أنّ العرب يتّكلون دائماً على قناعاتهم المُتوارثة حول الحتميّة الوجوديّة، من غير الأخذ بالعِلل والأسباب، لإعمال العقل في سبيل تغيير الواقع غير المُلائم، أو حلّ المشاكل التي يواجهونها على كلّ الأصعدة.
أخيراً وليس آخراً، ” الكورونا ” وباءٌ خطير، يخلق وضعاً غير مألوف على الصعيد الإنساني، لم يحصل في التاريخ، إذ يجعل البشريّة راضخة لمفاهيم الخوف والترقب والإستسلام، من غير فهمٍ جليّ للحالة، ولا يُعرف مَن هو الناجي وكم مِن الوقت سيستغرق الوضع؟ قبل الوصول إلى خواتيمه، ومَن المُستفيد؟ إن كان ظاهراً أو خفيّاً! لهذا علينا أن ننظر للأمر من منظار علميّ وليس روحانيّ، لنصل إلى فهم الموضوع من غير أن نقع بفخّ التوكّل والصَلاة والتَضرّع والدُعاء، الذي يجعلنا بحالة جمودٍ وشللٍ، دافعاً بنا إلى المجهول، فالحثُ على التعقّل هو خير لنا من الإتّكال الأعمى على الغير مرئي من دون إشغال الفِكر والتحليل السليم للوصول إلى النتائج المرجوّة، كذلك ليس من المنطقيّ التسليم لِما هو مرفّعٌ عن الحيّز الوجودي، وليس له ماهيّة يحدّها العقل، من غير العمل على فهم المشكلة وحلّها بالواقع المادّي المعيوش، لا يبقى إلّا أن نقول، بأنّ مشكلة الوجود تُحلّ بالموجود، فتعالوا نحلّ مُعضِلة ” الكورونا ” بما موجودٌ لدينا على هذه الأرض، ولنترك السماء وبُعدها الغير المُتناهي، لكي لا نتبخّر في فضائها الذي لاحدود له، ولنختار التعقّل طريقاً إلى التوكّل على ما يُنتجه من حلول.