د. سمير التقي – الناس نيوز ::
النهار العربي – تزامناً – في عام 2014، ووفق صديقة محترمة حضرت عرساً حلبياً أصيلاً، كانت الصالة تعبق بعرق الرجال المختلط بعطور نسائية ثقيلة، يصفقون ويرقصون، ولما اختلط صوت صباح فخري، بصوت صواريخ “الجيش العربي السوري” يقصف مواطنيه “الإرهابيين” في الخالدية والشيخ مقصود، ما كان من صاحب البيت إلاّ أن رفع صوت الموسيقى!.
بعد سنوات من التحقيقات المتعثرة، أكّدت تقارير الأمم المتحدة، المسؤولية التامّة للنظام السوري في قصف مواطنيه بالأسلحة الكيماوية والبراميل والقنابل الروسية “الذكية”. في ذلك الوقت ناشد السوريون المجتمع الدولي وقف المفرمة الوحشية للأطفال والنساء. لكن العتبة الأخلاقية لباراك أوباما، لم تكن لتتجاوز صاحب ذلك البيت الحلبي. بالنسبة لتلك “الشخصيات العظيمة”، فإنّها لا تنشغل الاّ “بالاستراتيجيات الكبرى”… ليست الأخلاق والقضايا الإنسانية إلاّ “ترهات”.
وبعد، ما الذي أمكن فعله أمام تلك القوة الإيرانية- الروسية الغاشمة التي أولاها أوباما للشأن السوري؟ نعم، احتفظ النظام بالسلطة في دمشق، وانتصر الرعاع في أغلب الأنحاء. ولم تنتصر قضية الحرّية في سوريا… لم تنتصر بعد. لكن ما تمكن منه السوريون حتى الآن هو أنّهم جعلوا انتصار النظام مستحيلاً! وليس هذا عناداً منهم، ولا حتى انتقاماً لمئات الآلاف من أبنائهم وبناتهم، بل يعود سبب استحالة النصر قبل كل شيء، إلى العقل البعثي الظافري المغلق، وإحباطه لأية مصالحة او سلم أهلي. لذلك لا يمكن للنظام أن ينتصر، ولن ينتصر.
ثم دارت الدوائر، وتخلّت أميركا عن تطنيشها، ليس بسبب إنسانيتها، بل لتبدّل الأوضاع ورؤيتها للصراع العالمي.
وهنا بالذات اختار النظام الاستمرار في دعم غزوات فلاديمير بوتين. بدأ من ابخازيا، ثم القرم والدونباس، حتي العدوان على أوكرانيا. وبعد أن فجّر بوتين الحرب العالمية الباردة الثانية وسط أوروبا، ينخرط النظام السوري لشوشته في خندقه. وهذا أمر لا يمكن تمويهه عبر قنوات التواصل من تحت الطاولة ومن فوقها مع الغرب وحلفائه.
العقوبات مثلها مثل الحرب، عمل عدائي. هي أقل من حرب، ولكنها أكثر بكثير من بيانات التنديد او تجميد العلاقات. لكن العقوبات كانت في الحالة السورية خياراً استراتيجياً للنظام! كيف؟
عندما أُسست منظمة التجارة العالمية، التي ترعاها أميركا ودولارها، كانت المنظمة سوقاً لمجابهة السوفيات في الحرب الباردة الأولى، وفي حينه أسس السوفيات سوق “الكوميكون” البديلة.
أما الآن، وبعد انفجار الحرب الباردة الثانية، وفي سياقها، تعيد أميركا هيكلة منظومتها العالمية عبر مجموعة من الحواجز والعقوبات. هنا بالذات اختار النظام السوري معسكره ليرتمي في أحضان أصحابه في معسكر “المقاومة”، ولتصبح العقوبات خياراً استراتيجياً. فقد استعاد الغرب مقاربته الإستراتيجية بعد انفجار الحرب الباردة الثانية، وبعد ان أسدلت أميركا وأوروبا ستائرهما على قتل 600 ألف سوري، ها هي تفرض العقوبات على النظام كسلاح وحيد باقٍ.
لماذا العقوبات؟ لم تعد ثمة طرق أخرى. لم يعد التدخّل الأميركي المباشر محتملاً قط. فبعد كارثة حرب العراق صار واضحاً انّه ما لم تمسّ المصالح القومية المباشرة للولايات المتحدة، فإنّها لن تتدخّل على الأرض بشكل واسع، في أي مكان. من جهة اخرى، لم يتمكن النظام الدولي من تطبيق القاعدة القانونية “بالتدخّل لأسباب إنسانية” كما في البوسنة وكوسوفو. لذلك، لم يبق في جعبة الغرب الاً العقوبات.
في الأسابيع الماضية، عمل بعض من أكثر السوريين جدّية وتواضعاً في واشنطن. وساهم جهدهم بإقرار مشروع في الكونغرس بإعادة تبنّي سلسلة من التدابير لتعزيز العقوبات وضبطها منذ ثلاثة أيام.
لكن ما الذي تعنيه العقوبات في عالم تسيل فيه الدماء حتى الركب؟ العقوبات سلاح طري كالماء وقوي مثله. يبدو سَلِسَاً، لكنه إذ يتراكم، يصير أمواجاً عاتية تفتت الصخر. المثال التاريخي هو الاتحاد السوفياتي! فبعد العقوبات، بدأ الشيوعيون يفكّون البراغي في عربات الاتحاد السوفياتي، إلى أن أُجبر على توقيع اتفاقيات هلسنكي، التي وضعت صيغة للتعايش السلمي، مع الالتزام بحدّ أدنى من حقوق الانسان. كان هذا كافياً، وبعد اقل من عقدين، بدأ يذوب الإتحاد السوفياتي كفص ملح في الماء.
كحلبي، كنت أفضّل أن تقصف روسيا حلب، بأشدّ العقوبات، بدلاً من البراميل والصواريخ التي قتلت “بدقة” المئات من أطفال المدارس والمرضى في المستشفيات في جريمة موصوفة.
إذاً، ما الذي تفعله العقوبات الآن؟ لا شك في أنّها، مثل كل حرب، تضرّ المدنيين. لكن أثرها الجوهري والاستراتيجي هو على قدرة النظام على البقاء. النظام من جهته، هو الذي دمّر، بدعم روسي، مدناً صناعية كاملة متكاملة، في دمشق وحمص وحلب، من دون أي مبرّر. فكيف يتباكى على الخراب الراهن؟
لذلك طفش الآن ذاك التاجر الذي رفع صوت المذياع، ومعه المئات من أصحابه. انّهم ليسوا شبيحة ولا بلطجية، بل من شرفاء البلاد المتضرّرين حتى العظم، لكنهم في حينه فضّلوا البقاء. ثمة في تركيا وحدها، أكثر من 600، منهم. وبحسب شكواهم الشخصية، فإنّهم لا يطفشون بسبب العقوبات، بل بسبب استشراس أمراء الحرب وشفطهم لآخر قطرة من دم البلاد. ولن يعود هؤلاء من دون توفير حدّ أدنى من الأمن الشخصي والاقتصادي.
في المقابل، كانت العقوبات في العلاقات الدولية باباً لفتح أفق تفاوضي. تفاوض الاتحاد السوفياتي، وصدام حسين، وهكذا تتفاوض روسيا الآن، وإيران، وكوريا، وفنزويلا، من أجل تخفيف أثر العقوبات على المدنيين، والحصول على بعض الفوائد. لكن النظام لا يأبه قيد أنملة.
لا يمكن لأي نظام أن يحيا بمجرد القمع، ولا بدّ له من تحالف اقتصادي اجتماعي. وكلما ضاقت مناورة الأوليغارشيا الكبتاغون السوداء الحاملة للنظام، كلما ضاقت قاعدته. وهذا ما تفعله العقوبات. إذ تستهدف العقوبات أصلاً الأفراد والمؤسسات الفاسدة، ذات الصلة بالجهد العسكري. لكن النظام يصرّ على أن تستأثر هذه الجهات بالذات بشرايين الحياة للناس.
صار الاقتصاد السوري “جرناً مثقوباً”، تُهرّب منه الأموال أولا بأول، ولا ينوب المواطن من المساعدات الاّ النذر اليسير، بعد ان يقدّموا آيات الخضوع والاستعباد. فلقد استشرى نموذج اقتصاد الدولة الخارجة عن القانون.
ولنعترف انّ مأساة المواطن السوري لا تقتصر على مناطق سيطرة النظام فحسب، بل تمتد بالطبع إلى كل مقاطعات أمراء الحرب. لذلك تُطبّق العقوبات على اغلب الأراضي السورية. أما استثمارات مشاريع الترف والأبهة، فإنّها لن تفيد إلاّ في مفاقمة هوة الفقر المدقع والجوع. ولن يؤدي أي رفع للعقوبات الاّ لخياطة الجرح السوري بقيحه، وإدامة تفسّخ الإقليم.