[jnews_post_author ]
لقد أحدث المقال المنشور مؤخراً في صحيفة هارتز الإسرائيلية يوم 13 تشرين الثاني 2020 زلزالاً في الأوساط الإعلامية، لاتهامة رئيس وزراء سوريا الأسبق جميل مردم بك بالعمالة لصالح إسرائيل وبريطانيا، واصفاً إياه بالعميل المزدوج. الكاتب ماير زامير يقول إن لديه وثائق تثبت هذا الأمر ولكنه لا يعرضها، مضيفاً أنه سيقوم بنشرها في كتاب يصدر في العام المقبل.
في رواية زامير عدة مغالطات وأخطاء، سنحاول تفنيد بعض منها.
أولاً: أن جميل مردم بك كان سنة 1945 عميلاً للإنكليز وبواسطة مدير المخابرات البريطانية السيد نيكولاس كلايتون، وأنه كان من مؤيدي “مشروع سوريا الكبرى” الذي طرحه العراق الهاشمي ورئيس وزرائه نوري السعيد. مشروع “سوريا الكبرى” كان مشروعاً أردنياً وليس عراقياً، وقد تم طرحه من قبل الملك عبد الله الأول سنة 1946، بعد جلاء الفرنسيين عن سوريا، وليس عام 1945. وكان الهدف منه تنصيب الملك عبد الله ملكاً على سوريا وليس ابن شقيقه الأمير عبد الإله، الوصي على عرش العراق في حينها. أما المشروع العراقي الذي نادى به نوري السعيد فكان اسمه “الهلال الخصيب” وليس “سوريا الكبرى.”
ثانياً: يُعتبر مردم بك أحد صنّاع التحالف السوري المصري السعودي الذي بدأ في منتصف الأربعينات واستمر حتى الألفية الثانية، وكان هدفه الأساسي الوقوف في وجه المدّ الهاشمي في العالم العربي. كانت علاقة مردم بك جيدة جداً مع الملك فيصل الأول، حاكم سوريا ومن ثم العراق، الذي توفي سنة 1933 وكان قد عمل مترجماً خاصاً له في شبابه. أما مع بقية أفراد الأسرة الهاشمية فلم يكن هناك أي ود بينهم وبين مردم بك. نظراً لعلاقته الممتازة مع كل من الملك فاروق والملك عبد العزيز آل سعود، قام مردم بك بمجابهة الأسرة الهاشمية في كلّ من الأرن والعراق، بسبب قربها من الإنكليز. عارض وبشدة فكرة استعادة العرش الهاشمي في سوريا وكان من أقطاب الحزب الوطني الذي وقف في وجه حزب الشعب المؤيد للعراق ومشروعه. وفي عام 1940 كان قد اتهم هو شخصياً بعملية اغتيال عبد الرحمن الشهبندر، حليف الهاشميين في سوريا، وظلت هذه التهمة ملاصقه له حتى الممات. وبعد اعتزاله السياسة سنة 1948، قرر العيش في مصر ضيفاً على الملك فاروق وليس في الأردن أو العراق. فكيف لرجل عارض المشروع الهاشمي طوال حياته أن يقبل بأن يكون عميلاً سرياً له؟
ثالثاً: يقول الكاتب إن جميل مردم بك وُعِد من قبل الإنكليز بتنصيبه رئيساً للحكومة على سوريا تحت العرش الهاشمي في حال تحقق المشروع. ما هو مبرر أن ينتظر تنصيبه رئيساً للحكومة من قبل الإنكليز، وهو قد نال ذلك مرتين بجهده وعرقه، دون مساعدة من أحد؟ ويا لها من مرتين، كانت الأولى في عهد الرئيس هاشم الأتاسي سنة 1936 والثانية في عهد شكري القوتلي عام 1947. ولو أراد ذلك لقبل دعوة الرئيس جمال عبد الناصر للترشح للرئاسة الأولى في سوريا سنة 1954، ولكنه أبى وفضّل دعم القوتلي.
رابعاً: يقول الكاتب إن الإنكليز وعدوا جميل مردم بك بأموال كثيرة (handsome sums) لو قبل التعامل معهم. هنا نسأل: ما حاجة مردم بك إلى المال الإنكليزي وهو يملك كامل سوق الهال الحالي في دمشق، ومعظم عقارات ما يعرف اليوم بحيّ بستان الرئيس، إضافة إلى كامل قرية حوش المتبن في غوطة دمشق؟ الرجل كان ثرياً أبا عن جد، وهو وحده بين أقرانه الذي كان مُتفرغاً كلياً للسياسة، ليس له أي مهنة أخرى بسبب ماله الوفير الذي حقق له راحة كبيرة طوال حياته. جميل مردم بك كان خريج مدرسة العلوم السياسية العليا في باريس، ومن يملك ثمن دراسة مرفهة من هذا النوع ليس بحاجة لمال أجنبي، يلطخ به سمعته.
خامساً: يقول المقال إن جميل مردم بك اجتمع مع أعضاء من الوكالة الصهيونية العالمية وأنهم استفادوا من معلوماته في قيام دولة إسرائيل. الشق الأول من هذه الكلام صحيح، ولم يكن وحده من اجتمع معهم من الزعماء العرب. شملت هذه الاجتماعات كافة رجالات الكتلة الوطنية، وكانت بطلب من الصهاينة أملاً أن تثمر عن تعاون بينهما يحقق استقلال سوريا مقابل دعم عربي لقيام دولة إسرائيل. مردم بك اجتمع مع الصهاينة في باريس سنة 1936 وليس في دمشق، كما يقول الكاتب، وكان نظيره في تلك المفاوضات ديفيد بن غوريون وليس الصهيوني السوري من أصول دمشقية أيليهو ساسون. ولكن من الممكن أن يكون مردم بك قد التقى ساسون فهو سوري مثله وكان هذا قبل قيام دولة إسرائيل عام 1948.
سادساً: يقول المقال إن مردم بك أعطى الوكالة اليهودية معلومات عن مشاريع بريطانيا والعراق في المنطقة ومحاولتهم إحياء المشروع الهاشمي في سوريا. هنا سؤال بسيط: هل كانت الوكالة اليهودية والحركة الصهيونية بحاجة لوسيط بينها وبين بريطانيا العظمى، صاحبة وعد بلفور؟ هل يعقل أن تكون الحركة الصهيونية بحاجة إلى جميل مردم بك لمعرفة ما يدور في رأس صناع القرار في لندن؟
سابعاً: يقول الكاتب إنه اعتمد على وثائق تثبت عمالة مردم بك لهذه الجهات، حصل عليها في الأرشيف البريطاني والسوري. الأرشيف البريطاني وكما هو معروف تابع لوزارة الخارجية، وفيه العديد من التقارير الدبلوماسية والأمنية والسياسية، وهو يفتح كل 30 أو 50 عاماً. من عمل باحثاً في لندن يعرف هذا الأرشيف جيداً، وليس فيه أي إشارة إلى عمالة مردم بك بالمطلق. ولا يوجد أي أرشيف عن الرجل ينتظر الكشف فهو اعتزل السياسة عام 1948 أي أن كل ما لديهم عنه قد فتح منذ عام 1998. وحتى لو كان عميلاً، العميل لا يدخل اسمه في السجلات الرسمية أبداً، وتحديداً لو كان من هذا الحجم، ويبقى مكتوماً باسم مستعار في أرشيف المخابرات. ففي مصر، عرفنا مثلاً أن أشرف مروان، صهر الرئيس عبد الناصر ومدير مكتب السادات كان اسمه الحركي “الملاك” فكيف للإسرائيليين والبريطانيين أن يكتبوا عن “العميل” مردم بك باسمه الصريح والعلني. أما القول بأن هناك أرشيفاً سورياً لجأ إليه الكاتب واستفاد منه فهذا أمر مضحك لأن ليس في سوريا أرشيف وهذا معروف للجميع، فجميع أوراق الجمهورية قد سرقت أو نهبت أو أتلفت بسبب سنوات طويلة من الإهمال والفوضى، وتحديداً كل ما هو متعلق بمرحلة ما قبل وصول حزب البعث إلى السلطة عام 1963.
——————————————-
أمير سعادة